حكيم باشا.. مطرح ما يزرعونى أطرح

- من «التقشيطة» حتى «الكلسون» أزياء البطل تشبه ملابس أهل الجنوب
يُفتتح مسلسل «حكيم باشا» بمشهد بانورامى لنجع خيالى فى صعيد مصر يُدعى «نجع الباشا»، حيث تُظهر الكاميرا الترعة التى تشق النجع، والبيوت المتناثرة التى تعكس أوضاع ساكنيه.
نرى بيوتًا شُيدت من الإسمنت المسلح والأسقف الخرسانية، بما يدل على تحسن الأحوال المادية لأصحابها، وفى المقابل، تظهر بيوت أخرى ما زالت مبنية من الطوب الأخضر «اللبن»، وهى صورة صادقة لفقر ساكنيها.
ما أثار إعجابى ليس فقط هذا المشهد البانورامى، الذى يعكس خبرة عميقة وإجراء زيارات ميدانية لقرى الجنوب، بل حالة التكامل الفريدة التى يعكسها العمل، ولا تقتصر على إتقان اللهجة الصعيدية، واستخدام الفلكلور الجنوبى مثل «العديد» و«الأمثال» المليئة بالعامية الجنوبية الأصيلة، بل تتعداه إلى تصوير الشخصيات التى يعرفها أهالى الجنوب جيدًا.
تتنوع هذه الشخصيات وتتدرج فى سلم الحياة الاجتماعية، بدءًا من «حكيم باشا»، الذى يجسده مصطفى شعبان، وهو الزعيم الذى يمسك بزمام الأمور فى النجع، وكلمته «سيف مسلط على الرقاب»، ثم يأتى رياض الخولى فى دور «واصل»، الذى يمثل الطرف الآخر فى الصراع، وصولًا إلى «جلالة» التى تلعب دورها سلوى خطاب، و«برنسة» التى تجسدها سهر الصايغ، وغيرهم الكثير.
وهذا التكامل بين اللهجة والفلكلور والشخصيات الواقعية يجعل من «حكيم باشا» عملًا دراميًا يستحق المشاهدة، خاصة مع تقديمه صورة قريبة من واقع الحياة فى الصعيد بكل تفاصيلها وتعقيداتها.

شخصيات من الواقع
فى مسلسل «حكيم باشا» نجد أن جميع الشخصيات، بدءًا من «حكيم» نفسه، هى شخصيات نلتقى بها كثيرًا فى صعيد مصر، ليس فقط فى الأقصر أو أسوان، بل أيضًا فى أسيوط وسوهاج وغيرهما من محافظات الجنوب، فكل شخصية فى العمل تحمل سمات واضحة تعكس واقع الحياة فى الصعيد، ما يجعلها قريبة من المشاهد وكأنها خرجت من قلب هذه النجوع.
«حكيم باشا»، الذى يجسده مصطفى شعبان، هو نموذج لـ«الكبير» فى النجع، وهى شخصية معروفة فى الصعيد، يتزوج كثيرًا، ونساؤه يعشن فى بيت واحد، وكلمته نافذة على الجميع، فمن غير المعقول أن يكون كبيرًا ولا تمشى كلمته فى بيته أولًا.
و«الكبير» ليس مجرد شخص عادى، بل له هيبة كبيرة وقدرة على الصلح بين المتخاصمين، وحتى لو فشل الزوج فى إقناع زوجته بالعودة إلى المنزل، فإن مجرد تدخل الكبير يجعل الزوجة وأباها ينصاعان لرأيه تقديرًا لمكانته.
و«الكبير» لا يتراجع عن كلمته حتى لو أخطأ فيها، وقد يسرق أو يقتل، وهذه الأفعال لا تشينه فى الصعيد، لكن ما يشينه هو أن يستغل سلطته لتحقيق مصالح شخصية، فحين يفعل ذلك، يفقد هيبته ومكانته!
وعندما يمشى «الكبير» فى النجع، قد يصل خوف «الحريم» من دقة عصاه على الأرض إلى درجة تجعلهن يختبئن فى بيوتهن، خوفًا منه أكثر من خوفهن من أزواجهن، وهذا الواقع رأيناه بأعيننا فى العديد من النجوع التى زرناها.
ومصطفى شعبان، رغم أن هذا أول أدواره فى الدراما الصعيدية، نجح فى تجسيد شخصية «حكيم» ببراعة، وكأنه خرج من أحد شقوق الحوائط فى الجنوب، فهو يعى تمامًا طريقة لبس أهل الصعيد وكلامهم، وكأنه ينتمى إلى تلك الأرض.
لا تشعر بأنه غريب فى أى تصرف أو نظرة عين، بل حتى فى طريقة جلوسه بالفندق فى القاهرة، حيث يتكئ على ركبته ويظهر من تحت جلبابه الأبيض «التقشيطة» أو «رمش العين»، ومن تحته «الكلسون»، وهى من الملابس الأساسية لأهل الجنوب. كما أن جلاليب «حكيم» مفصلة بدقة، ووفقًا لعدة «قصات» معروفة فى النجوع.
ولا ننسى تلك اللزمة التى ينطقها «حكيم» بعد كل موقف، حيث يدق بعصاه الأرض ويقول «أها»، وهى لزمة موغلة فى عمق الجنوب تُستخدم لإغلاق الموضوعات بشكل نهائى، فلا حديث بعدها.
أما شخصية «برنسة»، التى تجسدها سهر الصايغ، فهى أيضًا شخصية موجودة فى الجنوب، و«برنسة» هى البنت التى تحكم بنات المكان، ويأتمر الجميع بأمرها، وهى تأخذ ما تريد، لكن هذا النموذج ليس شائعًا مثل شخصية «حكيم».
وفى الغالب، تكون الجدة هى كبيرة الدوار، وهى التى تزوج البنات وتقوم بدور الوسيط، ولها حكمة وأمر نافذ على العائلة، ومع ذلك، فإن وجود شخصية مثل «برنسة» ليس مستبعدًا، ففى الجنوب، إذا غاب الكبار، تخرج من البيت بنت لها رؤية وهيبة وحكم نافذ على ساكنات البيت، والجميع يعرف ذلك، فيتركونها تدير مصالح البيت من طهى وغسل وتوزيع أدوار، ولها أيضًا رأى فى خروج بنات البيت من الدوار أم لا.
وما أثار إعجابى بشكل خاص هو شخصية «جلالة»، التى تلعبها سلوى خطاب، و«جلالة» امرأة ذات عين حاسدة وقوية، وهو نموذج شائع فى الجنوب، فهناك نساء معروفات بـ«عينها الصايبة»، ويخاف منهن أهل النجع خوفًا شديدًا، حتى إنهم يهمسون ويحوقلون عند وجودهن.
هذه التفاصيل الدقيقة تجعل المسلسل قريبًا من الواقع، وتعكس عمق المعرفة بالبيئة الصعيدية التى يعيشها أبطال العمل.

كنوز الفلكلور
«حكيم باشا» لم يبرع فقط فى استخدام المفردات الجنوبية الموغلة فى العامية الصعيدية، بل أيضًا فى توظيف الفلكلور الجنوبى من أمثال شعبية و«عديد» وغيرهما، ما جعله عملًا دراميًا غنيًا بالتفاصيل الثقافية واللغوية التى تعكس عمق البيئة الصعيدية.
فى اللهجة، نلاحظ اختلافًا فى طريقة التعبير بين شخصيات مثل «حكيم» و«واصل» و«نوح» وغيرهم، فالمفردات نفسها قد تكون متشابهة، لكن الثقافة الشعبية لكل شخصية تؤثر فى طريقة استخدامها.
على سبيل المثال، حين تحدثت «برنسة»، التى تجسدها سهر الصايغ، عن الأمثال، أوضحت أن نشأتها فى كنف أمها علمتها الكثير، فباتت تتحدث بالأمثال، وهذا يظهر كيف أن لكل شخصية قاموسها اللغوى الخاص، الذى يتغير بتغير خلفيتها الثقافية، لكنه يظل مرتبطًا بأصل واحد، وهى اللهجة الصعيدية بكل تنوعاتها.
وما أدهشنى حقًا هو الكم الهائل من المفردات والعبارات التى يحتويها المسلسل، وهى مفردات موغلة فى عمق النجوع الصعيدية، والمشاهد يستطيع فهمها من خلال سياق العمل، لكنها تظل تحمل فى طياتها حكمة وبلاغة لا تُضاهى، فالجنوب معروف بعباراته البليغة وصوره الشعرية التى تنافس أعتى الشعراء.
هذا ظهر بوضوح فى حوارات «حكيم»، الذى يستخدم عبارات مثل: «عدوك مش ولد كارك.. عدوك الفاشل فى كارك»، و«هتيجى معايا فى الصح هرحب بيك.. هتيجى معايا فى الغلط يا مرحب بيك»، وهذه العبارات ليست مجرد كلام عابر، بل حكمة يعرفها كبار النجوع، وتُستخدم فى سياقات مختلفة لتعبر عن مواقف حياتية معقدة.
كما أن المسلسل نجح فى استخدام مفردات نادرة نسمعها لأول مرة فى الدراما المصرية، مثل: «مدلدل»، و«مغفلق»، و«الفروج»، و«شايل عبدالقادر»، و«السابقة غالبة»، و«تاعتيرو»، و«محرات الشر».
وهناك أيضًا عدد كبير من الأمثال الشعبية التى تم توظيفها ببراعة، مثل: «اللى ما يسمع كلام كبيره.. يا تاعتيرو»، و«إن خرب بيت أخوك.. خد لك منه قالب»، و«إلا ما فادتنا الكاملة المكملة.. هتفيدنا الكرتة المقملة؟»، و«جات الدرة يا حزينة والدرة مرة ولو جرة»، و«الحنك سالك والزر بارك»، و«مفيش بعد حرق الزرع جيرة»، و«اتلم القرد ع النسناس وبيتكلموا على سياد الناس»، و«بخت السودة وأم السنون.. وبخت العدلة فى التراب مدفون»، و«هو أنا مدلدل زيك مطرح ما يزرعونى أطرح»، و«الرجال ميغضبش غير على غضب بته».

طقوس الفقد
لم يتوقف التميز عند الحوارات والأمثال، بل امتد إلى «العديد» الذى أدته «جلالة»، التى تلعبها سلوى خطاب، و«حزينة»، التى تجسدها ماجدة منير، والحقيقة أن أداء «جلالة» كان عبقريًا، خاصة فى مشهد وفاة ابن «سليم»، الذى يلعبه منذر رياحنة، حيث قالت: «يا عود طرى اتلوى ومال ع الأرض... انهارده كان وسطينا وبكره تحت الأرض».
فربما يكون الأكثر إثارة للإعجاب فى مسلسل «حكيم باشا» هو دقته فى تصوير لحظات الحزن وطقوسه فى الجنوب، حيث تتجسد ثقافة الفقد بكل تفاصيلها المؤثرة، فعندما يموت رجل كبير فى الصعيد نرى شقيقه يتحزم بشال حول وسطه، ويشبك يديه خلف ظهره، ثم يبدأ فى «الحجل» وهى الحركة المتكررة بالقفز على قدم واحدة، ويمرغ وجهه فى التراب.
أما النسوة، فيشققن «القبات»، وهى العباءات السوداء التى ترتديها النساء فى الجنوب، ويصرخن بحرقة، ويضعن التراب على رءوسهن، وإن كان الميت طفلًا فإنهن يضعن يدًا فوق الرأس وباليد الأخرى يخبطن عليها بقوة.
هذه الأفعال ليست مجرد عادات، بل هى «حق للحزن»، كما يقول أهل الجنوب، ولا يستطيع أحد أن يتدخل لوقفها، لأنها تعبير صادق عن الفقد والألم. ومع ذلك، فإن بعض الرجال يكتمون هذه المشاعر، ويحاولون التمسك بالهدوء، مؤمنين بأن ما حدث هو أقدار لله، وأنه يجب التحلى بالصبر.
وكما قال «حكيم» فى المسلسل: «الحزن فى الرجال فى قلوبها»، وهو تعبير يعكس كيف أن الرجال فى الجنوب يعيشون حزنهم فى صمت، ولا يظهر منه سوى حزن العين، حيث يغالبون البكاء ولا يسمحون لأنفسهم بالانهيار أمام الآخرين.
أما أبناء النجع فإن دورهم يكمن فى تهدئة الفاقد، سواء كان الفقد لابن أو أخ أو أب أو أم. ولا يوجد أبلغ من أداء «جلالة» و«حزينة» فى مشهد الفقد، الذى يبرز مشاعر تجسد لأول مرة فى الدراما المصرية.

احتفاء شعبى
ما قدمه مسلسل «حكيم باشا» هو نقل كامل لحياة نجع من نجوع الأقصر أو قنا، حيث تتشابه اللهجة والعادات والملابس والمأكل والمشرب بين المنطقتين.
المسلسل نجح فى جذب أبناء الجنوب بشكل غير مسبوق، وامتلأت المقاهى بمشاهدين يتابعون «حكيم» باهتمام بالغ، ويصفقون أحيانًا عند سماع مفردة معينة أو مشاهدة فعل لشخصية من الشخصيات، ما يعكس إعجابهم الشديد بالعمل.
المسلسل أقنع الجنوبيين أنفسهم بأن ما يشاهدونه ربما دار فى إحدى النجوع التى ينتمون إليها، خاصة مع تشابه الجبال والطبيعة التى ولدوا فى أحضانها، تمامًا مثل «حكيم»، وحتى شخصية العم الذى يجسده فتوح أحمد، والذى يتكلم كثيرًا ولا يستطيع الفعل، وهى شخصية موجودة فى كل نجع. فهو حين يقول لأحدهم «إنت مدلدل»، فهو ينفى «الدلدلة» عن نفسه، رغم قناعته بأنه هو نفسه «مدلدل».
فى النهاية، لن أندهش إذا ظهرت أسماء مواليد جديدة فى النجوع هذا العام مقتبسة من أسماء أبطال «حكيم باشا»، مثلما حدث مع مسلسلات سابقة مثل «غوايش»، و«ذئاب الجبل»، و«الضوء الشارد»، و«يونس ولد فضة»، إذ ظهرت أسماء مثل «المعلا قانون»، و«البدرى بدار»، و«رفيع بيه العزايزى»، و«يونس» و«فرحة» و«وردة».
أقدم الشكر للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، التى قدمت هذا العمل المميز، وأشد على يد مصطفى شعبان وطاقم العمل، خاصة مصحح اللهجة محمود عفت، والمؤلف محمد الشواف، وأرى أن «حكيم باشا» يمكن أن يكون نواة حقيقية لتناول الصعيد فى الدراما المصرية بشكل أكثر عمقًا، تمامًا كما كان «ذئاب الجبل»، الذى كتبه محمد صفاء عامر، فارقًا فى تاريخ الدراما المصرية.