صاحب المنمنمات.. حسام فخر: أكتب نصًا «طالع من القلب» وليسمه النقاد والقراء ما شاءوا

- القصة القصيرة الأقرب إلى روحى وتمسكى بها ليست تضحية
- الروايات فى معرض الكتاب تفوق تعدادى الصين والهند مجتمعين!
- ليس بالأدب وحده تنشط الثقافة.. نحتاج كتبًا علمية وفكرية وفلسفية
- «الومضة» أدب شديد الصعوبة وكتابته مثل السير على حبل مشدود
صدرت عن دار «الشروق» مؤخرًا المجموعة القصصية «لسان عصفور.. منمنمات قصصية»، من تأليف حسام فخر، الذى كتبها بشكل شاعرى، وضمّن فيها العديد من الأفكار المبتكرة، بكل ما يحتاجه هذا الشكل الأدبى من تكثيف شديد ودقة فى الكتابة.
وعلى قصر قصصها، تثير المجموعة العديد من الأسئلة لدى القارئ، وتدخله سريعًا وتتركه فى حالة ارتباك، لمَ لا وصاحبها يعتبر كتابة القصص القصيرة أو «الومضات» أو «المنمنمات» تماثل السير على حبل مشدود، وتتطلب التعامل مع كل تفاصيلها بمنتهى الحذر والدقة.
عن المجموعة القصصية «لسان عصفور.. منمنمات قصصية»، وأسلوب كتابة هذا النمط الأدبى، فى زمن يشهد سطوة الرواية، إلى جانب تقييمه لحركة الترجمة من وإلى العربية، فى ظل قضاء جل حياته بالخارج، يدور حوار «حرف» التالى مع الكاتب حسام فخر.

■ بداية.. كيف كتبت «لسان عصفور.. منمنمات قصصية» بهذا التكثيف الشديد بكل ما يحتاجه من دقة و«معاناة» فى الكتابة؟
- القصة أو «الومضة»، إن جاز استخدام هذه الكلمة، التى يُقاس طولها بعدد الكلمات أو الأسطر لا بعدد الصفحات، شكل أدبى شديد الصعوبة، كتابتها تماثل السير على حبل مشدود، ولو لم يتعامل الواحد مع كل تفاصيلها بمنتهى الحذر والدقة، قد تتعرض إلى خطر تحولها إلى شىء يشابه الطرفة أو النادرة أو حتى النكتة.
اختيار الموضوع نقطة بداية مهمة جدًا، ثم يأتى بعدها التدقيق فى كل لفظة مُستخدَمة، ووزنها بميزان الذهب، حتى لا تُستخدم كلمة قد تغير المعنى أو تعطيه أبعادًا أو إحالات قد تكون غير ذات صلة بالموضوع، ثم يأتى بعد ذلك الإيقاع أو «وزن النثر»، فهذا الشكل لا يحتمل التباين فى طول الجمل، أو الإثقال عليها بعبارات اعتراضية أو هوامش تفسيرية.
لذا، كنت كلما كتبت واحدة من تلك «المنمنمات»، أقرأها لنفسى بصوت عالٍ، بل وأسجلها فى بعض الأحيان حتى أعود لسماعها من مسافة عاطفية متجردة تتيح لى أن أسمع الإيقاع والجرس حتى أطمئن لسلامته وملاءمته لما أريد قوله.
كل هذه الاعتبارات تجعل تعليقك أو سؤالك فى محله تمامًا. الكتابة الأولى، ثم التنقيحات المتوالية للوصول إلى الكلمة الواجبة والإلزامية التى لا يمكن استبدالها بغيرها، كل هذا يتضمن معاناة كبيرة وجهدًا عقليًا وعاطفيًا مضنيًا، لكنها معاناة ممتعة إلى أبعد حدود الإمتاع، وجهد يستحق أن يُبذل مهما كان فيه من وجع نفسى وعاطفى.

■ لماذا أطلقت على قصصك «منمنمات قصصية» رغم أن بعضها يمتد على ٣ صفحات؟
- عندما اخترت لفظة «منمنمات» كان قصدى أن أصف بها معظم قصص أو نصوص العمل. لم يكن القصد منها أن ألزم نفسى بشكل صارم لا أحيد عنه قط. فى أى لوحة أو جدارية مرسومة بـ«الموزاييكو»، ستجد أجزاءً تتكون من قطع متناهية الصغر، وأجزاءً أكبر حجمًا بل وكبيرة إلى حد أنها تهيمن على اللوحة بكاملها، وتكاد تحتل صدارتها وتخطف الأنظار بعيدًا عن التفاصيل الأصغر.
ولا أظن أن الأمر كذلك فى «لسان عصفور»، فالقصص أو المقطوعات الأطول فيها لا تحول النظر عن أغلب الأقاصيص الأقصر.

العمل بكامله، وبإهدائه إلى محمد المخزنجى وياساونارى كاواباتا، ينتصر لـ«القصة القصيرة» و«القصة الومضة» و«القصة القصيدة»، وهى الأشكال التعبيرية المفضلة عندى. وجود قصة طولها ٢٥٠ أو ٣٠٠ كلمة بجوار قصة طولها ١٩ أو ٣٤ كلمة لا ينفى «النمنمة»، وقد يكون من باب أن «الضد يظهر حسنه الضد». وبصفة عامة. لحظة الكتابة هى لحظة الحرية الكاملة بالنسبة لى. أفرد أجنحتى وأنطلق مرفرفًا بغير اهتمام كبير بالتعريفات والتصنيفات، حتى لو كنت أنا واضعها.
■ هناك حواشٍ تفيد بأنك نقلت بعض القصص من مجموعتى «أم الشعور» و«البساط ليس أحمديًا».. لماذا؟
- لهذا عدة أسباب، أولها أن معظم أعمالى السابقة، مثل «البساط ليس أحمديًا» و«أم الشعور» و«وجوه نيويورك» و«يا عزيز عينى» و«حكايات أمينة» نفدت طبعاتها التى كانت محدودة العدد أصلًا ولم يعد لها وجود ورقيًا.
كأى كاتب، أخاف على أعمالى من الاندثار والانقراض، حتى وإن كنت بعد الخبرة والتقدم فى السن أراها أعمالًا ساذجة. صحيح أننى أتحتها مجانًا على تطبيق «أبجد» بما يحميها بعض الشىء من خطر الاختفاء التام. لكن عدد المطلعين عليها إلكترونيًا محدود جدًا، لذا أحاول إنقاذها.
السبب الثانى والأهم هو أن القصص التى أعدت نشرها من مجموعات سابقة كانت مختلفة كل الاختلاف عن طبيعة وروح المجموعات التى نُشرت فيها أصلًا. لا أريد ان أصفها بأنها كانت «نغمة نشاز» فى الأعمال التى نُشرت فيها. لكنها كانت مكتوبة من «مقام» لغوى وعاطفى مختلف عن باقى أجزاء تلك الأعمال، ولعلها كُتِبت أصلًا لتكون جزءًا من «لسان عصفور»، التى لم أكن أعرف وقتها أننى سأكتبها يومًا ما.

■ تبدو بعض القصص مثل قصائد نثرية وليست قصصًا.. هل قصدت هذه الشاعرية فى اللغة؟
- كما قلت فى ردى على سؤال سابق، لحظة الكتابة هى اللحظة الوحيدة التى أمارس فيها حرية كاملة ومطلقة. يتولد النص فى ذهنى بالشكل الذى يخدم مضمونه، ويفصح بأكبر قدر من الوضوح عما يصطخب فى قلبى من مشاعر، وأفكار تدور فى ذهنى. فأنا لست مهمومًا على الإطلاق بالتصنيف أو بالتعريف.
تأتينى الفكرة بشكل معين ومعها ألفاظ ومفردات، قد تكون فى بعض الأحيان شاعرية، وقد تكون فى أحيان أخرى مفرطة القسوة والقتامة. ما يعنينى هو اتساق الشكل والمضمون، وأن يأتى النص صادقًا وطالعًا من القلب، وليسمها القراء والنقاد الاسم الذى يروق لهم، «قصائد نثرية» أو «قصص ومضة» أو أى اسم آخر يفضلونه. ليس من دورى ولا واجبى أن أقدم تفسيرات أو تعريفات.
■ ثمة هم عام وخاص فى المجموعة لكنها فى الأخير وعند قراءتها كاملة يتضح أن همها الأكبر هو الإنسان.. هل هذا صحيح؟
- لقد أكرمتنى الدنيا بتجربة عريضة وشديدة الثراء من الناحية الإنسانية. سافرت إلى أكثر من نصف دول العالم، وجالست ملوكًا ورؤساء دول وصعاليك وشحاذين ومشردين، ودخلت فى أحاديث عابرة لا حصر لها مع أناس من خلفيات وثقافات مختلفة، وكنت فى عملى مسئولًا عن ١٨٠ شخصًا من ٥٠ جنسية و٦ مجموعات لغوية وأتباع ديانات وأيديولوجيات متباينة، بل ومتناقضة وأحيانًا متعادية.
خرجت من هذه التجربة بيقين راسخ لا يتزعزع بأن الناس هم الناس فى كل مكان. كلنا نحب بنفس الطريقة، ونخاف بنفس الطريقة، وتتملكنا أحلام متماثلة، وغاية ما يتمناه الواحد منا أن يضع رأسه على وسادته فى نهاية النوم بأكبر قدر ممكن من الاطمئنان على أحبابه، وبأقل قدر ممكن من القلق والرعب من المستقبل. أنا مؤمن بوحدة بنى البشر أيًا كانت خلفياتهم أو طبقاتهم أو قدراتهم المادية أو مستواهم التعليمى. إن كان هذا الإيمان قد اتضح وتجسد فى «لسان عصفور» فما أسعدنى بهذا.. البهجة تملأ قلبى بهذا التعليق.
■ تحمل القصص دلالات تمنح كل قارئ تأويله الشخصى لها.. هل قصدت ذلك؟
- عندما يتجرأ كاتب على نشر ما يكتبه، يعرف تمامًا أن العمل المطبوع لم يعد ملكًا له، بل هو ملك بنفس القدر لمن يتفضل بقراءته. كل قارئ سيرى فى هذا العمل ما يناسبه وما يشعر به، الذى قد يكون مختلفًا عما قصده الكاتب.
القراءة شراكة متساوية بين الكاتب والقارئ. ما أكتبه أنا هو مشاعرى الشخصية وأعمق أحاسيسى، قد يوافق عليها القارئ وقد لا يوافق، قد يجد فيها ما يعبر عنه أو ما قد ينفر منه. ليس من حقى ككاتب أن أفرض نهاية قاطعة لا مجال فيها للتأويل أو التفسيرات المختلفة. النتائج القاطعة أو شبه القاطعة والنهايات المغلقة الحاسمة لها مكانها، وهو الكتابات الأكاديمية أو المقالات، لكن هذا فى رأيى المتواضع لا يجوز فى الكتابة الإبداعية.
■ تحفل المجموعة بقصص الحيوانات التى لا تأتى كحيوانات مجردة وإنما كعامل فاعل وحقيقى فى النص كأنهم يقفون جنبًا إلى جنب مع الحكايات عن الإنسان.. لماذا لجأت إلى ذلك؟
- تاريخ الأدب الإنسانى حافل بالأقاصيص التى تلعب فيها الحيوانات دورًا أساسيًا، أو تُروى على لسان الحيوانات. هذه حيلة فنية معترف بها، وكثيرًا ما يلجأ لها الكُتّاب تفاديًا للمباشرة أو الوعظ. لم تحظ الحيوانات بنعمة النطق والتعبير عن نفسها، وأنا أحب الحيوانات بكل أشكالها. لعلى كنت أريد أن أكون متحدثًا بلسانها لأعرض مظالمها والقسوة التى يعاملها بها بعض البشر لأسباب أساسها الجشع والطمع والأنانية، ولا صلة لها بضرورات البقاء.
■ هل يمكن اعتبار أنك تحاكم الإنسان بعدما أصبح وبالًا على سائر الموجودات وليس نفسه فقط؟
- قلت إننى أؤمن بوحدة بنى البشر جميعًا. وبنفس القدر أؤمن بوحدة كل أشكال الحياة والمساواة بينها. نحن جميعًا، من أصغر حشرة حتى أضخم حوت أزرق، شركاء فى هذا الكوكب الجميل الذى لا نعرف موطنًا غيره. ولكل منا نفس الحق فى الاستمتاع به والعيش فيه بطمأنينة.
للأسف الشديد، الإنسان يتوهم أنه «سيد الكوكب»، وأن كل المخلوقات مُسخَر لخدمته، فماذا كانت النتيجة؟ تلوث مرعب، تسميم للهواء والماء، انقراض مئات من السلالات الحيوانية، وتغيرات مدمرة فى المناخ لا يستطيع أحد أن يتنبأ بعواقبها؟ أى دنيا سنورثها لأبنائنا وأحفادنا؟ ما يحدث لعالمنا كارثة بالمعنى الحرفى للكلمة، وواجب كل منا أن يحذر من نتائجها، ولو بمجرد همسة غير مسموعة كتلك التى ترد فى بعض قصص «لسان عصفور».

■ قصة «لسان عصفور» التى تحمل المجموعة اسمها، نشرتها بتغيير طفيف عبر صفحتك على «فيسبوك».. لماذا؟
- كما ذكرت سابقًا، الفكرة تظل تتردد فى ذهنى، ويعزف عقلى تنويعات مختلفة عليها حتى أستقر على شكلها النهائى. ربما أكون قد كتبت هذه العبارة ثم أدركت بعدها أنها لا تناسب ما أود قوله فعدت لتغييرها.
لا أذكر فى هذه الحالة بالتحديد أننى كتبتها بشكل مغاير، أو ربما تكون الذاكرة قد خانتنى، لكن هذا هو ما حدث أو لم يحدث! لو كنت قد غيرتها بالفعل، ربما يكون السبب أنها كانت عامية، بينما تعمدت فى هذا العمل أو هذه المغامرة عدم استخدام العامية المصرية، خلافًا لأعمالى السابقة التى استخدمتها فيها دون حرج أو تردد.
■ القابض على القصة القصيرة مثل الدكتور محمد المخزنجى والدكتور أحمد الخميسى وأنت بالطبع كالقابضين على الجمر فى ظل سطوة الرواية.. هل تتفق مع هذا الرأى؟
- أظن أن عبارة «القابضين على الجمر» فيها قدر لا يستهان به من المبالغة. كل واحد يعبر عن نفسه بالطريقة التى يراها ملائمة لمشاعره وأفكاره. من الواضح، أننى والأستاذين الكبيرين اللذين تفضلت بذكر اسمى معهما، نرى فى القصة القصيرة أقرب الأشكال الأدبية إلى روحنا وما نود قوله.
هناك طوفان عارم من الروايات التى تصدر كل سنة. عددها المفرط يجعل من الصعب متابعتها جميعًا والوصول إلى تقييم منصف لها. قلت لصديق إن عدد الروايات الصادر فى معرض الكتاب هذا العام قد يفوق تعداد شعبى الصين والهند مجتمعين.
قد تكون مقولة «زمن الرواية» سببًا فى هذا الانفجار، وقد يكون إغراء الجوائز الأدبية المخصصة للرواية دون غيرها سببًا آخر. لكن هذا لا يلزمنى بالسير مع التيار العام، ولا يجعل تمسكى بالشكل الذى أفضله، وهو القصة القصيرة، تضحية ولا تبتلًا ولا موقفًا أقبض فيه على الجمر. هذا اختيارى الحر فقط لا غير. هناك مقولة مستهلكة ابتذلتها كثرة الاستخدام: «دع مائة زهرة تتفتح». فليكتب كل منا ما يشاء بالشكل الذى يحبه، والزمن وحده كفيل بتحديد ما سيبقى وما سيختفى.
■ بحكم إقامتك معظم حياتك فى الخارج وتحديدًا الولايات المتحدة.. كيف ترى واقع الترجمة من وإلى العربية؟
- هناك حركة ترجمة نشطة إلى العربية، وسعدت كثيرًا بالتعرف مؤخرًا على مجموعة من المترجمين الشباب، الذين يترجمون عن لغات لم تكن تتمتع بالاهتمام الكافى، مثل الصينية والكورية والروسية واليابانية وغيرها. هؤلاء الشباب الواعدون يترجمون عن تلك اللغات مباشرة دون اللجوء إلى لغات وسيطة، وهذا تطور رائع ومبشر بالخير.
ما يؤسفنى بعض الشىء هو تركيز حركة الترجمة إلى العربية على الأعمال الأدبية أكثر من غيرها. نحن بحاجة ماسة إلى ترجمات لكتب علمية وفكرية وفلسفية، فليس بالأدب وحده تنشط الحياة الثقافية.
أما عن الترجمة من العربية، ففى حدود علمى لا تزال محدودة النطاق، ومقصورة على مجالات بعينها أبرزها الأدب، وكذلك على أسماء معينة فحسب. واعتقادى هو أن حركة الترجمة من العربية لا تفى ثقافتنا حقها الواجب.