توماس جورجيسيان: أنا مزيج مصرى أرمينى مثل «الفخفخينا»

-كتاب «مشربية حياتى» مزيج من الفضفضة المصرية والطبطبة الأرمنية وليس سيرة ذاتية
- والدتى وضعت أمـامى سماعة طبيب وقلمًا.. فاخترت «لعنة» الكتابة
حياة الكاتب الصحفى المصرى الأرمينى، توماس جورجيسيان، ليست كأى حياة تقليدية، بل مزيج من الترحال والبحث الدائم عن المعنى، بداية من مولده فى مصر، رغم جذوره الأرمينية. بدأ مشواره صيدليًا، لكنه سرعان ما ترك المعطف الأبيض لصالح القلم والكلمة، لينطلق فى عالم الصحافة. كان من المفترض أن يستقر فى مصر، ويتزوج ويمارس مهنته المفضلة، لكنه اختار السفر إلى واشنطن، حيث يقيم منذ 30 عامًا.
حول تلك الرحلة الطويلة، كتب «جورجيسيان» كتابه الصادر مؤخرًا عن دار «الشروق» بعنوان: «إنها مشربية حياتى.. وأنا العاشق والمعشوق»، ليسجل فيه تفاصيل مهمة عن تكوينه ومسيرته وذكرياته مع الكبار. عن هذا الكتاب وتفاصيله الشيقة، وآرائه فى الكثير من القضايا، يدور حوار «حرف» التالى مع توماس جورجيسيان.

■ عملت فى «صباح الخير» ثم انتقلت للعمل فى نيويورك.. كيف ترى واقع الصحافة بين مصر وأمريكا؟
- الفارق بين الصحافة المصرية والأمريكية كبير جدًا، ولست هنا لأدخل فى مقارنات مباشرة، لكننى أريد أن أركز على مشكلتنا هنا فى مصر. الصحافة المصرية فى وقت ما كانت مختلفة تمامًا، صحافة حية مليئة بالإبداع، وهذا ما عشته بنفسى من خلال عملى مع عمالقة مثل إحسان عبدالقدوس ولويس جريس، وللعلم لم تكن الصحافة وقتها مجرد نقد أو حريات، بل كانت فضاءً للإبداع الخالص.
على سبيل المثال مجلة «صباح الخير»، التى كانت تعج بالحياة والإبداع، ضمت ٢٠ رسامًا فى هذه الفترة، وكانت غرف التحرير مليئة بالمبدعين الكبار، أذكر مرة أننى دخلت إلى حجرة فوجدت علاء الديب وعبدالله الطوخى وزينب عبدالصادق يعملون معًا، وبعد الظهر كان يأتى صبرى موسى. كانت هناك منافسة حقيقية فى الإبداع، وكانت المجلة مقسمة إلى أقسام مختلفة، كل قسم يقدم شيئًا مميزًا. الصحافة لكى تكون حية تحتاج إلى حرية، لكن الحرية هنا ليست فقط فى انتقاد شىء ما، بل فى الخيال والابتكار.
اخترت نموذج «صباح الخير» لأنها كانت بالنسبة لى متعة حقيقية، مثل مدينة ملاهٍ أو «ديزنى لاند»، كانت مجلة القلوب الشابة والعقول المتحررة، لو كان هناك قلب شاب فقط، لكان ذلك كافيًا ليكون منطلقًا، ولكن المزج بين الشباب والتحرر الفكرى هو ما جعلها مميزة.
الصحافة اليوم مختلفة، خاصة فى أمريكا ودول أوروبا، ليست الصحافة هناك مجرد نموذج نقتدى به، بل شىء نستمتع به. أنا قارئ محترف، وإلا لما كنت كتبت ما كتبت، سواء أعجبك ما أكتبه أم لا، فأنا أتابع ما يُنشر بدقة، ليس فقط من خلال الوسائط الإلكترونية، لكن أيضًا عبر الصحف والمجلات الورقية.
هذه المقومات موجودة بقوة فى الصحافة الأمريكية، خاصة فى الملاحق الأدبية والفكرية والفنية لصحف مثل «نيويورك تايمز، ولوس أنجلوس تايمز، ووول ستريت جورنال». هناك أيضًا مجلات مثل «نيويورك» و«ذا أتلانتيك»، تكتب وتنقد وتفسر ما يحدث، اجتماعيًا وسياسيًا وفكريًا.
فى النهاية، الصحافة الحقيقية هى التى تجمع بين الإبداع والحرية، وتخلق مساحة للنقاش والتفكير، وهذا ما نفتقده أحيانًا فى صحافتنا اليوم.

■ تُصدر كل فصل من كتابك «إنها مشربية حياتى» بمقولات أدبية لنجيب محفوظ ومحمد المخزنجى وغيرهما.. لماذا لم نجد تصديرًا لكاتب أرمنى واحد، رغم أنك مصرى أرمنى، وتتابع وتقرأ وتكتب باللغتين؟
- فى كتابى، أتطرق إلى مواضيع متنوعة، وأقتبس من مصادر مختلفة، من بينها كتابات لمؤلفين يابانيين وأمريكيين ومصريين وفلسطينيين، وخصصت فصلًا للأرمن بعنوان «هؤلاء تعلمت منهم».
اقترح البعض أن يكون العنوان «سيرة أرمنى مصرى»، لكننى أرى أن هويتى تتجاوز هذا التصنيف. أنا مزيج من ثقافات مختلفة، ولا يمكننى أن أختصر نفسى فى وصف واحد، أنا مفتوح على التعرف على أى شخص، سواء كان أرمنيًا أو مصريًا.
أرى أن فكرة «الخلطة» أو «السبيكة» هى الأنسب لوصف هويتى، تمامًا مثل «الفخفخينا»، ذلك المشروب اللذيذ الذى يجمع بين مكونات مختلفة ليخلق طعمًا فريدًا.

■ ضمّنت مقتطفات من حكاياتك مع الكبار وشرحت كيف أن يوسف إدريس طلب منك كتابة رواية لكنك لم توافق.. ما القصة؟
- ليست المسألة أننى لم أقبل، لكن دعنى أوضح لك وجهة نظرى، أنا بطبيعتى لا أبحث عمّا هو غير موجود، أو أتساءل: لماذا هو غير موجود، على سبيل المثال، هناك من ظن أننى ذاهب إلى أمريكا لأصبح بطل أفلام فى هوليوود. لكن الحقيقة أننى عشت كل هذه التجربة بمخزون استراتيجى غنى، وعندما يرى كاتب بحجم يوسف إدريس أننى أصلح لكتابة الرواية، فهذا بحد ذاته إنجاز كبير. هذا هو جوهر الأمر.
■ كان يمكن نشر هذا الكتاب قبل ١٠ سنوات مثلًا.. لماذا تأخرت فى كتابته ونشره؟
- منذ ١٠ سنوات، لم أكن الشخص نفسه الذى أنا عليه اليوم. وبرأيى، الكتاب لم يتأخر رغم أن الحكايات قديمة وحدثت معى منذ زمن، استغرق البحث فيه ٣ سنوات لأننى أردت التعمق أكثر، أنا سريع الكتابة عمومًا، وأؤمن بما قاله إرنست همنغواى: «دع وريد الكتابة دائمًا ينزف».
تعلمت الكثير خلال هذه الفترة، فأنا بطبيعتى وتفكيرى أميل إلى التصوف، رغم أننى لا أتبع أى طريقة صوفية محددة. بالنسبة لى، الطريقة هى الهدف، وليس مجرد إنجاز الكتاب.
كان الدكتور محمد أبوالغار متابعًا حريصًا على الإنجاز، يقف خلفى ويحفزنى باستمرار، وكما قلت وسأظل أقول، خلال ٤ سنوات كنت أجمع وأبحث، وأستشير أختى أحيانًا، فتلفت نظرى إلى تفاصيل دقيقة.
هناك أمور لم أكتبها بشكل مباشر، لكنها تجلت فى سرد الكتاب.
كنت أكتب ثم أترك ما كتبت ليومين أو ٥، أبتعد عنه ثم أعود لأقرأه من جديد، كنت أتمنى، كما تُخبز الخميرة، أن يختمر النص وينضج مثل الخبز، ويصل إلى قارئه فى أفضل صورة.

■ الكتاب يختلف عن كُتّب السير الذاتية، ويبدو كما لو أنه حالة عشق وامتنان.. هل قصدت ذلك؟
- طبعًا، حالة عشق. كان فى رأسى العاشق والمعشوق وأنا أكتب الكتاب، ومن ذلك جاء اسم «المشربية». العشق هو أساس الكتاب ومكنونه، وأنا العاشق وأحيانًا المعشوق.
الكتاب عبارة عن مزيج بين «الفضفضة المصرية» و«الطبطبة الأرمنية»، هو ليس سيرة، بل حالة عشق وحب وتذكر وحكى. «ماركيز» قال: «أنا أعيش لأحكى»، لكننى أقول: «أنا أحكى لأعيش»، فكلما حكيت لنفسى ولغيرى، شعرت بأن حياتى لها معنى.

■ كتبت العمل بصيغة المضارع.. لماذا؟
- ما قصدته أن المكتوب هنا ليس ماضيًا وانتهى، بل واقع مستمر، حالة استحضار للمُبدعين والأحباب، والبحث عن الأحباب مهم جدًا، مثل صلاح جاهين وغيره. لم أرد استذكار التاريخ وحفظه فى الذاكرة فقط، بل البوح والحكى والتعبير عما أعيشه من حالة عشق.
أردت أيضًا تأكيد أن أى شخص يمكنه عيش حياة جيدة، عليه فقط الالتفات حوله لرؤية هذه الحياة. والداى لم يكونا متعلمين، ولم يملكا أى علاقات مع كُتاب يمكن أن يساعدوا فى تقديمى للجمهور، لم تتوافر لدىّ معالق ذهب أو خشب، ومغ ذلك مضيت فى رحلتى.

■ وماذا عن الجزء الخاص بذكرياتك فى واشنطن؟
- قلت فى بداية حديثى عنها «واشنطن وأهلها الكرام واللئام». أردت أن أكشف حقيقتها، وكيف أنها مدينة قاسية جدًا لمن يعرفها وعاش بها، لذا عندما سألنى أصدقاء شاهدوا مسلسل «House of Cards»: «هل ما جاء فى المسلسل عن واشنطن حقيقى؟»، قلت لهم: «حقيقى جدًا وأقل مما يحدث».
لكن ما ينبغى وضعه فى الاعتبار، أن هناك من يأتى إلى القاهرة من المحافظات فيراها قاسية، بحكم طبيعة المكان المختلفة، ولقاء بشر مختلف عمن التقاهم وعاش معهم فى مسقط رأسه، وهكذا.
وفى كل الأحوال، واشنطن هى سوق كبيرة للمصالح والانتهازية، سيرك سياسى، كنت أشاهده ولا أتمنى أن أكون فيه لاعبًا أو مُروَضًا. هى عاصمة القرار والنفوذ فى الولايات المتحدة والعالم، وفيها يوجد البيت الأبيض، الذى أسميه «حائط مبكى الشعوب».
■ لماذا لم تتطرق كثيرًا لمعاناة والدك وجدك هربًا من مذبحة الأرمن على يد العثمانيين؟
- كل أرمنى تقريبًا كأنه مطالب بأن يحكى عن المذبحة. على المستوى الشخصى، رأيت انعكاس هذا على والدى الذى عاشها بنفسه. لكنى لا أكتب تاريخًا ولا أؤرخ، ويكفى أن أقول: أنا توماس جورجيسيان، الذى ولد فى مصر وعاش بها، وأدى خدمتها العسكرية، ويعيش الآن فى واشنطن.
حدث تهجير وشتات، والكل يعرف الحكاية بكل تفاصيلها، لكن انبهارى الحقيقى، الذى عبرت عنه فى محاضرات عديدة بحضور أرمن، ووقفت أمامه بتقدير واعتزاز، هو: كيف لمن عاش هذه المأساة أن يربينا بهذا الشكل؟
كيف أقاموا المكتبات، ومنحونا بصمة خاصة من الثقافة الأرمنية، خاصة فى مصر وسوريا، مثل فؤاد الظاهرى، مؤلف الموسيقى التصويرية لأكثر من ٢٠٠ فيلم، من بينها فيلم «فجر الإسلام» و«خلى بالك من زوزو».
أنا أتعجب من قدرتهم على تحويل الألم إلى أمل، فكل من عاش المذبحة كانت لهم بصمة خاصة، فى مصر وسوريا وغيرهما، حيث حولوا الألم إلى إبداع وأمل كبير، حولوه إلى موسيقى وأفلام، كيف رغم كل ما عاشوه فعلوا ذلك؟
■من سيقرأ الكتاب سيكتشف أن حياة توماس جورجيسيان كلها صدف غريبة صنعت واقعه.. كيف ترى هذه الصدف ودورها فى حياتك؟
- طبيعة بشر، وبحث دائم عن معانٍ أخرى للحياة. ولعمرى لم آخذ قرار نتيجة هزيمة، كان يطردنى أحدهم من بيته فأبحث عن بيت آخر. سأقول لك أمرًا، هذه طبيعتى الأرمينية، العالم الذى أخلقه فى داخلى وخارجى ليس مرتبطًا بمن هم حولى.
أعمل فى صيدلية فأجد بجوار منى شادى عبدالسلام، ونفتح حوارًا جميلًا عن أفلامه، مثل فيلم «المومياء» وغيره. بعدها أقابل «كومبارس» فى مقهى «بعرة» ويأتى ويكلمنى فأقول له: «كنت هائلًا فى فيلمك الأخير». أجلس أمام البيت الأبيض وأقرأ توفيق الحكيم، أجلس فى محطة مصر وأقرأ لكاتب أمريكى، عالمى ليس نموذجيًا ويتعب الآخرين، لكننى بكل تأكيد أحبه.
■ هل صحيح أن والدتك وضعت أمامك وأنت طفل قلمًا وسماعة طبيب فاخترت القلم؟
- حدث هذا بالفعل، وأعتبره «لعنة» فى الحقيقة، فلماذا أختار القلم وأترك الساعة والمجوهرات وغيرها مما عُرض علىّ.

■ هل ما كتبته فى الفصل الأخير يعنى أنه ستكون هناك كتب أخرى مقبلة على غرار «مشربية حياتى»؟
- كان يمكننى أن أكتب الكتاب فى 900 صفحة، لكننى اخترت أن يكون بهذا الحجم، لأنه ستكون هناك كتب أخرى بالفعل، خاصة أن لدىّ مادة جاهزة بالفعل، إلى جانب مواد أخرى إضافية.
وبصفة عامة، مشوارى فى الكتابة يمتد لمدة 50 سنة، 30 منها فى الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه التجربة الثرية لم تنعكس بشكل كلى فى كتاب «مشربية حياتى». ما زال هناك متسع للحديث عن تجربتى الصيدلية، ورحلاتى إلى أرمينيا، ولقاءاتى مع كُتاب وشعراء وسياسيين معروفين آخرين.
ما زال هناك متسع أكبر للحديث عن تجربتى فى الصحافة، وأنا لن أكتب تأريخًا للصحافة، بل أقدم صورة كاملة لتجارب مختلفة، ففى كُتبى أتحدث عن التجربة وليس الإنجاز، أنا ليس لدىّ إنجاز، وكل ما هو حولى أنظر إليه من رؤيتى الشخصية الخاصة، وليس من رؤية مؤرخ أو محلل.