الأربعاء 02 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

فواز حداد: الكثير من المثقفين «جبناء»

حرف

- بطولة المثقف فى الجرأة على قول الحقيقة وفضح ورفض تفاهة السلطة

- سوريا ابتليت بديكتاتورية إجرامية من طراز مُنحط عانى منها السوريون

- الإرهاب فى منطقتنا نتيجة طبيعية للإرهاب الأمريكى منذ غزو العراق

- الحركات «الجهادية» لن تتوقف ما دامت أسباب وجودها باقية ومستمرة

لطالما شكلت أعمال الروائى السورى فواز حداد مرآة عاكسة للتحولات العاصفة التى مرت بها المنطقة العربية، فكاتب «جمهورية الظلام» يغوص فى عمق التطرف والاستبداد وصراع الأيديولوجيات، ويقدم تشريحًا وافيًا لها لأى قارئ يريد تجنبها وحماية وطنه من تأثيراتها المميتة. 

فى هذا الحوار مع «حرف»، يتحدث «حداد» عن روايته «جنود الله»، التى استبقت بحدس روائى صعود التنظيمات التكفيرية فى المنطقة، وعلى رأسها «داعش»، مُسلطة الضوء على آليات استقطاب عناصر هذه التنظيمات، ودور السياسة فى تغذية العنف.

ويتطرق كذلك إلى روايته الأخرى «جمهورية الظلام»، التى تتبع فيها مسار الأنظمة الشمولية، والآليات التى توظفها فى قمع شعوبها الضعيفة، قبل أن يكشف، بمنظور ناقد، رؤيته لسوريا ما بعد الديكتاتورية، متسائلًا عن مآلات الحرية فى ظل السلطة الجديدة، ودور المثقف بين المواجهة والصمت، وكيف يمكن للكتابة أن تظل سلاحًا فى معركة الوعى.

■ لنبدأ من روايتك الأبرز «جنود الله».. كيف تنجح الجماعات المتطرفة فى استقطاب متعلمين وأثرياء نشأوا فى بيئات سوية، وغابت عنهم الدوافع المعروفة مثل الفقر أو الجهل؟ 

- لا يتميز ذكاء هذه الجماعات عن غيرها من الجماعات الأخرى القومية واليسارية، ولا يحكم توجهاتهم المستوى الاجتماعى ولا التعلم، ويجب النظر إليهم كما ننظر إلى الآخرين. لكن تقودهم دوافع مختلفة، بصرف النظر عن البيئة التى يظهرون فيها، وإن كانوا أكثر عددًا فى الطبقات الفقيرة والوسطى، على أن يكون فى ذلك نصيب من التدين. هؤلاء تلقوا الدين فى البيت، ثم فى المدرسة والمسجد والجامعة، يمارسون العبادات بانتظام. لكن الذين يقودون هذه الجماعات عادة يتمتعون بالذكاء، وربما أثرياء ومكتفون ماديًا، وعلى درجة جيدة من التعلم. التوجه نحو التدين لا تتحكم فيه البيئة فقيرة أو غنية، وإنما الأفكار و«التوق إلى العدالة»، والرغبة فى التغيير، وهى أفكار عادة تكون «راديكالية» إزاء حكومات «ديكتاتورية».

■ هل الرواية تنبأت بمستقبل «داعش» وسيطرته بذاك الشكل أم أنها مجرد تسجيل لحالة العراق فى ذلك الوقت؟

- الرواية تنبأت بعدم توقف العمل «الجهادى»، فالعوامل التى أدت إليه كانت ولا تزال متوافرة، وهى الرد على الغزو الغربى، ليس فى العراق فقط وإنما فى المنطقة العربية كلها. لذا كان تعميم «الجهاد» واقع الحال. بينما كان العراق قضية جاهزة، الصراع فيها محتدم بسبب الغزو الأمريكى، فكانت مجرد مثال، بينما «الجهاد» قضية مستمرة.

■ هل يُعتبر فقدان الأب لذاكرته فى الرواية، بما فيها اسمه، رمزًا لفقدان الهوية وسط جحيم العنف والفوضى؟

- فقدان الأب للذاكرة فى الرواية تعبير عن عدم القدرة على تحمل كل هذا العنف والدم والقتل. كان بفقدانه الذاكرة يتبرأ مما يجرى. أما اسمه فتخلى عن الذات المبُصرة، وإنكار لهمجية الفعل، وعدم اعتراف بالفراق النهائى عن ابنه. وهو أمر مهم. تخبط البوصلة، فإذا كان قد خسر يساريته، لم يجد تعويضًا بالنأى عنها. كان إزاء كارثة شكلت صدمة، وحاول حماية نفسه منها، لكن بذاكرة معطلة، إذ سرعان ما سيتذكر. 

■ أيمكن اعتبار تطرف الابن «سامر» رد فعل مباشرًا على إلحاد الأب؟

- مع بداية وعى الابن «سامر»، وتعرفه على الدين، كان موقفه على النقيض من أبيه. قد يُعتبر لدى «فرويد» بمثابة «قتل الأب». أنا لا أريد وضع الابن فى هذه الخانة، لأننى أجد فرصة تدينه تمنحه الحق فى عدم الرضا عن إلحاد أبيه، وهو أمر طبيعى. أما التطرف فليس هذا سببه، وإنما ما خيم فى هذه الفترة وهو فرض الهيمنة الأمريكية على المنطقة، وانصياع الأنظمة لها، فالسياسة كان لها دورها، ثم نزعة المقاومة التى انتشرت فى ذلك الوقت.

■ بالحديث عن إلحاد الأب، أو فى الحقيقة تخبطه بين الإلحاد والإيمان.. هل ترى أن هذا التخبط نتج أيضًا عن «الدين التجارى»؟

- لا أريد أن نختلق بواعث لتخبط الأب بين الإيمان والإلحاد، الأب رجل مثقف يعيش عصره وعلى اتصال بالتيارات الفكرية، فهو يسارى أحبطه سقوط الاتحاد السوفيتى، وانهيار الشيوعية فى البلدان الاشتراكية، وتحولها دفعة واحدة إلى النقيض، والتحاقها بشكل متسارع بالدول الرأسمالية. بالنسبة إليه، لم يعد لديه غطاء فكرى، عدا إحساسه بالخديعة الأيديولوجية. ومن قبل كان قد نفض يديه من الدين. لكن العامل الأخلاقى كان لديه قوى وحاضر، واستعاده بشكل عقلانى، فكان ضد العنف، يفهم الدين بشكله كمصدر للقيم. 

■ إلى أى مدى لعبت الأحداث السياسية فى الرواية دورًا فى تشكيل قناعات الابن، خاصة الاحتلال الأمريكى والصراعات الطائفية؟

- قناعات الابن كانت وليدة الأحداث السياسية العاصفة، وإذا نظرنا إليه على أنه إرهابى، فذلك من جراء الإرهاب الأمريكى، ففى ظل عدم وجود أيديولوجية يسارية حاملة للمقاومة، ذهب إلى الجماعات الإسلامية، والتحق بها فى العراق كمقاتل فى سن مبكرة ، متأثرًا بموقف البراءة التى فهم بها العالم. بسبب تأثير الدين والعامل القومى الذى لا يغيب عن السوريين، تطوع فى «المقاومة الإسلامية» دفاعًا عن العراق، ضد الهجمة العسكرية الأمريكية.

■ هل يمكن اعتبار أن الأب يمثل «الجيل القديم» الذى عايش القومية والاشتراكية، بينما الابن يمثل «الجيل الجديد» الذى وجد فى التطرف ملاذًا؟

- يمثل الأب جيل الستينيات وما بعده. بينما الابن يمثل جيل الألفية الجديدة. ليس لأنه وجد فى التطرف ملاذًا، لكن فى حرب كحرب العراق، كان الإرهاب هو السائد من الأطراف كلها، هذه كانت اللغة الوحيدة فى ساحة المعركة. كان القتل الطريقة الوحيدة للتفاهم، وبشكل غير متكافئ. كانت مواجهته بالعمليات الانتحارية والمفخخات والألغام. بينما التدخل الأمريكى اشتمل على التدمير الشامل والأرض المحروقة. ونلاحظ فى تطورات الصراع انحرافًا نحو الحرب المذهبية والأهلية، ما وضع «الجهاد» تحت التساؤل والإدانة.

■ هل تعكس نهاية الرواية رسالة مفادها بأن الفوضى والتطرف قدران لا مفر منهما، وأن محاولات الإصلاح الفردية لا تكفى لمواجهة دوامة العنف المستمرة؟

- أعتقد أن النهاية كانت منطقية وواقعية، ولو كانت غير ذلك، لتطلب أن أسبغ عليها ما ليس فيها، بافتعال نهاية تنفى ما توحى به الوقائع والحقائق. ما خلصت إليه أن الحركات الجهادية لن تتوقف وستتصاعد، ما دامت الأسباب موجودة، فما المبرر أو الداعى لتوقفها؟ الأحداث أثبتت فيما بعد، أنها توسعت واستفحلت وفى تمدد بعد مقتل «الزرقاوى»، ما أنتج «تنظيم الدولة» أى «داعش»، والسيطرة على أجزاء كبيرة من العراق وسوريا، وإقامة الخلافة، ثم تمزقها إلى عشرات الفصائل فى البلدين، ونشوء حروب مذهبية عبثية مدمرة. 

■ رواياتك «جمهورية الظلام» و«السوريون الأعداء» و«يوم الحساب». هل يمكن اعتبارها محاكمة رمزية للأنظمة القمعية، أم اعترافًا ضمنيًا باستحالة التغيير؟

- أعتقد أنها تتجاوز فكرة المحاكمات الرمزية للأنظمة القمعية فقط، إنها تشريح لنوع بات ساريًا فى بلداننا العربية وهو الدولة الشمولية الرثة، دولة ليست لديها أيديولوجية، تعتمد القمع والفساد كآلية للاستمرار والاستقرار معًا. أنظمة تافهة ومُنحَطة، تُسيِرها أجهزة أمنية وشبيحة «بلطجية»، تترسخ بالقتل والتعذيب حتى الموت والمجازر والمقابر الجماعية. توحى باستحالة التغيير، وكأنها باقية إلى الأبد، وهذا ليس صحيحًا، وما جرى فى سوريا مؤخرًا، أثبت أنه بعد ما يزيد على نصف قرن، سقط هذا النظام المُجرِم، ويأمل السوريون الكثير من المتغيرات التى ستبدل صورة سوريا فى الداخل والخارج. 

■ الخطابات الفكرية فى الروايات أدوات مقاومة أم مجرد ترف نظرى لا تأثير له على الواقع؟

- ليست خطابات بقدر ما هى أفكار تجول فى رأس كل واحد منا. إنها منظومات فكرية تتجدد على وقع الأحداث على أرض الواقع، سواء كانت هزائم أو انتصارات، حراكًا يدور فى داخلنا، وليست غير مجدية فى أزمنة الرعب والموت. يمكن وصف مآلاتها بكل وضوح بأنه قد لا يكون لنا حاضر ولا مستقبل إن لم نسارع ونفعل شيئًا، وننقذ ما يمكن إنقاذه. إنها مسألة حياة أو موت. وإذا كان ثمة أمل فالأفكار ليست ترفًا نظريًا، فى النهاية تفلح فى التأثير بالواقع، ولو على المدى الطويل.

■ هل يعانى المثقف فى الروايات صراعًا ذاتيًا بين الجبن والبطولة، أم أن البطولة ليست سوى وهْم يتلاشى عند أول اختبار؟

- المثقف ليس مقاتلًا يحمل بندقية، وليس قويًا للتصدى لآلية القمع. لا يمكن الحكم على بطولاته إلا بجرأته على قول الحقيقة، وشجاعته فى التصدى فكريًا لتفاهة السلطة والتسلط، وفضحها وعدم القبول بها. من المؤسف أن ما أبداه الكثير من المثقفين كان الجبن، وكانوا شركاء للطغيان، وأدواته فى تسويغ الاستبداد، وإيجاد المبررات له، فكانوا أبواق دعاية، بترجيح مصالحهم الشخصية والانتفاع من تقلد المناصب، ولو أنهم أخذوا جانبه خوفًا منه. 

■ هل ترى أن «جمهورية الظلام» فى سوريا زالت حاليًا؟ 

- نعم، زالت، أو أنها فى طريقها إلى الزوال، واستراحت سوريا منها، وتنفست عبير الحرية، لا توجد أجهزة أمن مُسلَطة، ولا مُداهمات ليلية ولا تعذيب، ولا تحقيقات ورقابة مخبرين ووسائل تنصت، ولا سجون ولا قتل.. إنها الحرية، الحرية التى لا بديل لها ولا عنها.

■ تحارب التطرف الدينى فى كل رواياتك تقريبًا، ما موقفك من السلطة السورية الجديدة بخلفيتها الإرهابية؟ 

- أنتقد التطرف بأنواعه «الدينى والعلمانى والسياسى والأيديولوجى»، كذلك الاتجاهات الفكرية المتشددة، فهى ليست معصومة من التطرف، قابليتها للانحراف تؤهلها لمباركة العنف، حتى الديمقراطية لا أمان لها، ها هى فى الغرب تميل نحو العنصرية وتشجع عليها، بدعوى حرية الرأى. كما نلاحظ تلاعبًا بسيادة القانون فى العالم، فهو لا يسرى على الدول القوية، وتُحرَم منه الدول الضعيفة.

■ وكيف تتصور مستقبل البلاد عمومًا والثقافة خاصة فى ظل هذه السلطة؟

- يصعب التنبؤ، فالناس ما زالت فى أفراحها، لكن الخطوات الأولى مُبشرة، لا أريد أن أكون متشائمًا. ما يُلاحظ أن السلطة الجديدة واعية لمتطلبات الناس. لكن قدراتها الاقتصادية ضعيفة جدًا. لم يدع لصوص العهد البائد شيئًا، لقد نهبوا البلد. سوريا تسترد أنفاسها على درب التعافى. لكن فى وضع يمكن وصفه كبداية إنه «تحت الصفر».

■ ماذا سيفعل مثقفو سوريا لو أنتجت السلطة الجديدة آليات القمع نفسها، ولكن تحت شعار «تطبيق الشريعة»، كما حدث فى تجارب أخرى؟

- لكل بلد خصوصيته، ابتليت سوريا بديكتاتورية إجرامية من طراز مُنحط عانى منها السوريون، ولم يعد لديهم أى استعداد للصمت عن أى تجاوزات تُقِيد الحريات، وتمارس القمع تحت أى عنوان، ومنها «تطبيق الشريعة». نريد دولة مدنية وديمقراطية ونظامًا دستوريًا، وسيادة القانون. لقد جربنا بما فيه أكثر من الكفاية، وتعلمنا الدرس مُضاعفًا، ودفعنا الثمن مليون شهيد وتهجير نصف الشعب السورى. الشعب حذر جدًا، لا يعتقد بالأقوال بل بالأفعال.

■ ما جديدك فى الفترة المقبلة؟

- رواية عن الثقافة والمثقفين فى ظل الدولة الشمولية الرثة، تتأمل حركة الثقافة طوال نصف قرن من خلال المثقفين. إنها محاولة كى نجيل البصر مليًا فى الدولة الشمولية التى ليست إلى انكفاء، وإنما تتمدد فى العالم، تحمل معها هذه الرثاثة القبيحة من فضائح الفساد التى تطاول قادتها والنخب ورجال الأعمال، وتتسلل إلى الثقافة.