الأربعاء 02 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

وفائى ليلا: الشعر «صديقى الخيالى» الذى أشكو إليه ما لا أستطيع قوله

وفائى ليلا
وفائى ليلا

- الرواية لم تستثر مشاعرى.. والشعر دون غيره يشبه مزاجى المشاكس

- الشعر لا يموت ولا يخفت.. ونحتاجه لتحمل قسوة الواقع وجلافة الحقيقة

- الشعر حيلتى وأداتى الوحيدة كى أنتصر فى عالم لا يؤمن بالحلم كثيرًا

هناك من يكتب الشعر، وهناك من يعيشه، والشاعر السورى وفائى ليلا أحد أولئك الذين خطّوا قصائدهم من نبض التجربة، من وجع المدن والناس، من دمشق التى يسكنها وتسكنه، إلى المنفى الذى لم يطفئ جذوة الأسئلة فى داخله، حيث يكتب ليواجه ويكشف ويترك أثرًا يشبهه، فى كل مكان. والتجربة الشعرية لـ«ليلا» مختلفة، وكيف لا تكون وصاحبها لجأ إلى الشعر عندما وجد نفسه وحيدًا، وتعامل معه باعتباره «صديقه الخيالى»، الذى يخترعه الأطفال الوحيدون، كى يشكى له كل ما لا يستطيع قوله.

فى حواره التالى مع «حرف»، نقترب من عوالم وفائى ليلا، رؤيته للكتابة، وعلاقته بالذاكرة والمكان، وإيمانه بأن الشعر لا يموت، حتى وإن تبدلت العصور.

■ متى قررت أن تكون شاعرًا ولست روائيًا أو قاصًا مثلًا؟

- الآخرون هم من قالوا إنى شاعر، لم أقصد ذلك. بداية عشرينياتى، اكتنفتنى الكثير من المشاعر المختلفة والخجل والتردد، كنت وحيدًا، فاستدعيت الشعر مثل «الصديق الخيالى» الذى يخترعه الأطفال الوحيدون، وشكوت له كل ما لم أستطع قوله ضد «لاءات» المجتمع وسلطات الواقع، والتى كان همها الأول إخراسى أو «تدجينى». كان الشعر دون غيره، لأنه يشبه مزاجى المشاكس المتأرجح بين التأجج والخمول. وربما لأنه مكثف وثقيل، أو لأن موسيقاه مُغرية دائمًا. الشعر هبة المجهول فليس للمرء قرار فيه. كل هذا بعكس الرواية، التى لم تستثر مشاعرى.

■ هل تعتقد أن الشعر لا يزال يحتفظ بمكانة قوية بين القُرّاء العرب أم أن الرواية صارت بالفعل «ديوان العرب الجديد»؟ 

- الشعر لا يموت ولا يخفت نجمه. منذ حضور الكائن الأول كانت رسائله وخطابه الأول شعرًا. الكتب المقدسة كذلك فيها من جمال الشعر. الرواية ربما ولظروف ما تتسيد المشهد. لكن هذا لا يقلل من أهمية وقيمة الشعر، واحتياجنا له ليسند وجودنا الهش، ويجعلنا نحتمل قسوة الواقع وجلافة الحقيقة أحيانًا، فعبره نرمم انكسارنا ونصير أقوى وأشد مناعة.

■ ألم تفكر يومًا فى كتابة الرواية لنقل تجربتك بزاوية مختلفة؟ 

- نعم، ثمة مشروع لكتابة رواية شعرية كملحمة تتحدث عن دمشق. أعرف أن هذا النوع من الأعمال ليس رائجًا، لكن أعمل على ذلك منذ فترة، وآمل من خلاله أن أكون أمينًا للمكان، ودقيقًا فى عكسه بكل التفاصيل التى أود أن تكون أمينة بدورها للتجربة، وقريبة من الحياة وعمقها وزخمها الفادح الفتنة، وأن تلتقط بخيطها شخوص بعض من عاش هناك، وكان جزءًا من التجربة والتقطته الذاكرة وأولته المعرفة. الرواية هدف مشتهى وأسعى إليه، لأننى أكتب نصوصًا طويلة للشعر، لا تسقط بسهولة من المتلقى - كما يقال لى- رغم طولها النسبى.

■ كيف رأيت مشاركتك فى معرض القاهرة الدولى للكتاب ٢٠٢٥ بـ٣ دواوين؟

- هى مصادفة لطيفة، ٣ دور نشر تنشر كُتبى المطبوعة خلال الـ١٠ سنوات الأخيرة فى بلدان مختلفة، ومن حسن حظى أنها كانت موجودة جميعًا فى معرض القاهرة الأخير للكتاب، فى العاصمة الأهم والأكثر عراقة فى العالم العربى والمنطقة ككل. لقد قرأت الشعر قبل سنوات فى القاهرة، وآمل أن أعود إلى القراءة فى يوم ما، لأنها قريبة لى كسورى أولًا ولها معنى مختلف بالنسبة للجميع.

■ ديوانك «متوقفًا عن الضحك» يحمل عنوانًا يوحى بالحزن والانقطاع.. فهل يعكس ذلك حالة شخصية أم توصيف لحالة عامة؟ 

- كل مجموعاتى الشعرية هى لحظات توقف وتأمل للذات، وانقطاع عما قبلها، وانعكاس حقيقى لأسئلتى وتجاربى، وثيقتى الأثمن ومرافعتى الأهم. لا أملك من القوة الكثير لأكون محاربًا فى عالم لا يؤمن بالحلم كثيرًا، الشعر حيلتى وأداتى الوحيدة كى أنتصر فى حين أنى مهزوم. كان بدايتى لطرح أسئلة حول قضايا اجتماعية وجسدية وسياسية، وبمثابة تحد للأفكار التقليدية التى لا يجب المساس بها. فى الديوان، اكتشفت صوتى الأول، الذى أعطانى الجرأة لتأكيد هويتى الخاصة والتمسك بفرادتها.

■ هل يمكن اعتبار هذا الديوان مواجهة مباشرة مع الاستبداد والسلطات القمعية التى تتناولها فى كتاباتك؟ 

- مواجهة مع المجتمع والسلطة السياسية، وكذلك مواجهة مع الذات، وتجريب الاقتراب من الحقيقة، من خلال استخدام الذات لأقول الموضوع دون مراوغة، وكذلك رصد للتجربة والبحث وقص الحكاية. منذ البداية كانت فلسفة نصوصى تحاول أن تقول الأبعد بلغة بسيطة، دون تذاكٍ أو تعالٍ أو فذلكة.

■ ما أقرب قصيدة لك إلى قلبك؟ 

- أحب نصوصى عن تجربة اللجوء، فى كتابى الذى أظنه الأهم «اسمى أربعة أرقام»، وهو عنوان للنص الرئيسى، يرسم معاناة غاية بالألم، مع لغة تهكمية عالية تحاول النجاة رغم الانكسار. بالإضافة إلى قصائدى عن الحرب، والتى تحدثت فيها عن قتل الأطفال بالسلاح الكيماوى، تلك الجريمة التى ارتكبها النظام فى ريف دمشق وأماكن أخرى من البلاد، وجاءت فى مجموعتى «رصاصة فارغة.. قبر مزدحم».

■ ذكرت دمشق قبل قليل.. كيف تترجم هذه العلاقة فى قصائدك؟ 

- دمشق مختبر بشرى هائل لعلاقات وقيم وطرق تفكير وتنوع، المدينة هى مسرح كبير يعج بتفاصيل لامعة، تتزاحم كى تشكل صورة للذاكرة، لا يمكن لها إلا أن تكون غاية بالجمال والتنوع والتناقضات. أظننى أكتب دمشق بتحولاتها، وعلى مسافة أقرب من سواى، وبواقعية أحيانًا تكون قاسية، وليس كما فعل آخرون عبر «التهويم» فى اللغة، وخلق مساحات جمال ليست هى.

أرسم الناس والأمكنة بخط عميق، مُبرزًا تناقضاتهم ومعاناتهم، وكذلك محاولاتهم للانتصار. وعندما جاءت الحرب، حاولت تتبع خيط الدم والجريمة المُتجّول فى أحياء دمشق وشوارعها المعتمة، المُتحولة إلى سجون. دمشق، المدينة التى أهانها العسكر، وتحولت إلى قرية كبيرة مليئة بالركام، كانت تعنينى بكل تفاصيلها: بيوتها القديمة، أبوابها المواربة، حاراتها، أسواقها، وكل أطلال التحضر التى دمرتها الأجهزة الأمنية وحولتها إلى خراب محزن ومُهين.

■ ماذا تعنى لك دمشق الآن بعد كل هذه السنوات؟ وهل تعتقد أن المدينة التى تركتها هى ذاتها التى تعيش بداخلك؟ 

- دمشق هى الرحم الذى أنجب الحكاية والقصيدة بالنهاية، وبالتالى هى المكان الذى رسم فى مخيلتى كل تلك المساحات الشاسعة لها، أحياء وضواح وريف. حين عدت عليها منذ شهر واحد فقط تتبعت كل التغيرات، وحاولت الاطمئنان على كل التفاصيل التى لطالما كانت تعنى لى الكثير، وجلتُ فى أحيائها المدمرة لألامس أرواح الناس الذين عاشوا فى المكان وأعطوه المعنى والفرادة. 

لا أعرف بالضبط إن كانت ذكرياتنا وعلاقتنا بالمكان تعطيه معنى إضافيًا وغير حقيقى تمامًا، ولكن أجزم هنا أن قدرتى على الوصف تعجز عن التقاط تلك العراقة والغنى الموجودة بكل تفصيل للأشياء، والتى تهبك مكانًا خلاقًا إلى ذلك الحد، ناهيك عن سهولة التعرف على البشر وأن تبنى علاقات وتعيش تجارب مع ألفة تُحار من أين تأتى أو تتسلل.

■ هل يلزم الشاعر الاغتراب والألم حتى ينتج قصائد بديعة؟

- يلزم الشاعر الكثير من الأوجاع والتجارب ونقيضها ربما، الكثير من المتاهات والأخطاء كى يكون، يأتى الشعر من الموسيقى ومن الفلسفة، وكذلك من «المايسترو» الذى يدير كل ما حدث لنا وعمل واعتمل فى داخلنا. الاغتراب جزء مؤلم ومُلهم من تجربة الشاعر. تلك الضياعات فى بلد الغير، ومحاولة البحث عن مدينتك وناسك فى وجوه وبلاد الآخرين.

لكن بحبوبة العيش ضرورة لكل مُبدع، إذ لابد من وقت مع الذات والاسترخاء الذى يمنحك الفرصة للتأمل، القراءة ومراقبة الحياة والذات. مع ذلك الشاعر يعمل طوال الوقت، حتى حين يصمت ويكتفى بالعزلة أو الغرق فى تأملاته الشاردة التى يفسرها الآخرون انفصالًا، وكلماته التى يرنمها فجأة بصوت عال فيظنها الآخرون هَذيانًا. مجتمعاتنا العربية لا تسمح بترف التفرغ أو بحبوحة العيش بسهولة، لكن يحاول المرء توازنًا ما، ينقذه من دوامة الحياة التى تستهلك الجميع، وتحولهم إلى مجرد آلات لاهثة من أجل اللقمة.

■ فى قصيدتك «اختناق» تقول: «اسكبوا ماء الصحوِ على غيبوبتنا.. أيقظونا مما وصلنا إليه».. هل ما زلتَ تؤمن بقدرة الشعوب على الاستيقاظ والتغيير؟ 

- لا يخطئ الناس- وإن تأخروا- ذاكرتهم ورغبتهم وصبرهم للوصول إلى ما يحلمون به. وحدهم الطغاة وضيقوا الأفق لا يرون التاريخ الذى تصنعه الشعوب من أجل حريتها وكرامتها ونحت عيشها. علمتنى الثورة السورية كيف يمكن للمرء أن يثق فى قدرة الناس على اجتراح المعجزة وكسر ناب الظلم، مهما طال الزمن.

لكن هناك دائمًا احتمالات للإخفاق، وعلى المرء أن يتقن الأمل كل مرة يحتاج فيها إلى النهوض من جديد، فالشعوب التى لا تجترح سبل خلاصها لا يجب أن تستمر. نحن منذ بدء الحياة كان لدينا هذا الامتداد الزمنى المستمر لعاصمة هى الأقدم، وقد ظلت كذلك مذ وعى العالم نفسه، لذا لم يمحنا لا «سارين» ولا سواه.

■ هل تعتقد أن النقد العربى أنصفك كشاعر؟

- النقد العربى فى مكان ما لا أعرف أينه، فلا دوريات ثقافية ولا مجلات متخصصة ولا أسماء لامعة ذات وزن فى هذا الحقل. العالم العربى عمومًا يغط فى نوم عميق له علاقة بغياب النقد ومراكز الأبحاث والأسئلة الكبرى، وكذلك غياب المشاريع القائمة على البحث العلمى على الأصعدة كافة. حسب خبرتى التى قد تكون ناقصة، لم أقرأ مقالًا نقديًا واحدًا يُعتد به عن تجربتى مثلًا، لكن ثمة محاولات قليلة رسمت انطباعات ما عن مجموعاتى الشعرية، وأنا ممتن لها طبعًا. آخر مجلة متخصصة فى الشعر كانت مجلة «الناقد»، التى توقفت منذ التسعينات. أما فى السويد فلمحت اهتمامًا مختلفًا وانصاتًا متميزًا، إلى جانب دعم مادى ومعنوى كبير، أظنهم يقرأون بعمق ومخلصون لدور الثقافة أكثر منا. 

■ أيلزم على الشاعر التكيف مع «الجمهور الرقمى» أم يظل الشعر بصورته الأصيلة وعلى المتلقى فهمه؟

- ليس خطأ أن يستفيد الشاعر من كل الوسائل التقنية للوصول إلى الناس. نحن فى عصر ومعطيات مختلفة، وعلى المرء الاستثمار فى ذلك. أنا شخصيًا أقدم أحيانًا فى السويد ٤٥ دقيقة من الشعر، فى عرض شبه مسرحى لنصوصى ممزوجًا بالموسيقى، ولا أمانع استخدام والاستفادة من كل أنواع الفنون.

على الشعر أن يُكتب بشكل حقيقى وعاصف، أى يكون «راديكاليًا» كما يفعل رسامو «الجرافيك» فى الشوارع الخلفية للمدن الكبرى، يشبه غضبهم ونزقهم وشتائمهم، أن يلتقط الهامشى والمهمل والواقعى الذى يتعالى عليه الغير، ويصعد إلى لغة الناس العاديين، التى هى غاية بالذكاء فى التقاط الحياة وهجائها أو الاحتفاء بها.

■ تُرجِم ديوانك «اسمى أربعة أرقام» إلى اللغة السويدية... كيف تؤثر الترجمة على روح النص الشعرى؟

- أعتقد أنها تؤثر بالفعل، لأن النص المُترجَم يفقد حساسية اللغة الأصلية ودلالات معانيها، وقد سمعت آراء حول ذلك فيما يخص نصوصى، وبأن النص الأصلى هو أجمل بما لا يُقاس، لكن فى تجربتى صادفت مُترجِمًا متميزًا هو الشاعر جاسم محمد، يؤمن مثلى بأن اللغة الجديدة يجب أن تخلو من التقعر والتصنع والإيغال بالعمق الكاذب لإثارة إعجاب النخبة، فالجمال دائمًا يكمن فى البساطة والعمق والتأثير. 

■ نعد إلى دمشق بل سوريا بصفة عامة.. بعد التحولات الكبيرة التى شهدتها البلاد.. هل تعتقد أن حرية الفكر والتعبير تأثرت؟ 

- آمل أن يكون هناك تحولات على صعيد المعرفة والثقافة والسياسة، وآمل أن تكون حرية التعبير مستقبلًا تشى بخيارات أرحب، كما يعد القادمون الجدد. لكن إن لم يحدث هذا، أظن أن السوريين بانتصاراهم الأخيرة على أشد الأنظمة ضراوة على مر التاريخ، قادرون على اجتراح معجزة بقائهم، والحفاظ على حضورهم الخلاق فى المشهد الكونى والثقافى والمعرفى.

وأظن أيضًا أن السلطات الجديدة، أمام تحدى ذكاء الناس وتنوعهم المعرفى، تحتاج أن تتماهى وتمتثل وتعكس كل ذاك، وإلا مصيرها كمن سبقها إلى زوال. ودور المثقف رئيسى فى بناء مجتمع متحضر، إذ تسهم المعرفة والتربية الذكية فى تقدم الدول، كما يظهر فى السويد التى تزدهر بالقراءة والاكتشافات.

■ ما أكبر تحد يواجه الثقافة السورية اليوم؟ 

- أكبر تحد هو البحث عن أسباب العنف والكراهية التى عصفت بالبلاد خلال حكم «الأسدين»، والبحث عن جذورها وتحليلها، وتأسيس ثقافة جديدة تشبه تسامح السوريين على مر التاريخ، والذى سمح بـ١٧ طائفة ومعتقدًا أن يتجاوروا فى المدن والحواضر السورية، عبر التاريخ، دون اجتياح أحدهم للآخر.

■ لديك تجربة تمثيل فى فيلم «الغابة» ومسرحية «مدن الخوف والحب».. كيف ترى العلاقة بين التمثيل والشعر؟

- عملت كممثل بفيلم سويدى نال جوائز عدة فى أكثر من بلد، ومارست ما يشبه المسرح الشعرى، قدمت فيه نصوصى بطريقة «مُمسرحة» بمشاركة آخرين، وذلك فى مدن سويدية كثيرة، وصنعت فيلمًا قصيرًا عن دمشق، صورته سرًا هناك أثناء سيطرة النظام، وحصلت من خلاله على جائزة أفضل فيلم فى السويد لعام 2022، علمًا بأننى كتبت السيناريو وأخرجته.