مين اللى ما يحبش سلوى
كريم جمال: سلوى حجازى تنبأت برحيلها المأساوى فى قصائدها!

- تعاملتْ مع موتها على أنه حقيقة حتمية قادمة لا محالة وفى صورة فاجعة
- تلبستها تلك الروح الحزينة فى تعاملها مع محيطها البشرى
فى رحلة بحثية استثنائية، يطل علينا الباحث الشاب كريم جمال بكشف توثيقى جديد ومهم فى التاريخ الثقافى المصرى، فبعد كتابه «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى» الذى ناقش حقبة مهمة فى حياة كوكب الشرق، يأتى كتابه الجديد «سلوى.. سيرة بلا نهاية»، ليكشف النقاب عن السيرة المنسية للإعلامية والشاعرة والمترجمة سلوى حجازى.
هذه الرحلة البحثية الطويلة التى خاضها «جمال»، لم تكن مجرد عملية توثيق تاريخى، بل كانت مغامرة إنسانية وفكرية كشفت عن الأوجه المتعددة لشخصية سلوى حجازى، الإعلامية الملتزمة، والشاعرة المرهفة، والمترجمة المتميزة، وأخيرًا الشهيدة التى قدمت حياتها ثمنًا للحقيقة.
عن تفاصيل رحلته البحثية الصعبة، والعوائق التى واجهها فى تتبع سيرة سلوى حجازى، والأسرار التى كشفها كتابه الجديد عن هذه الشخصية الاستثنائية التى ظلمها النسيان، أجرت «حرف» مع كريم جمال الحوار التالى.

■ بداية.. لماذا اخترت سلوى حجازى للكتابة عنها؟
- ربما لأن سيرة «سلوى» كانت سؤالًا مطروحًا منذ عقود طويلة دون إجابة واضحة، وربما لأنها ذاتها نموذج فريد وسط جيلها الأول المؤسس للتليفزيون المصرى، فقد شغلتنى تلك الوجوه الثلاثة التى جمعتها سلوى فى شخصية واحدة، وجه الإعلامية البرىء والهادئ، ووجه الشاعرة الحزينة والتى منحت تقديرًا عالميًا، ووجه الشهيدة الذى ما زال لغزًا، ولم يفك كل شفراته، ولم يفهم على نحو كامل.
لذا سعيت إلى «سلوى» بقدر ما سعت هى إلىّ، فى البداية قرأت ترجمة أشعارها عن الفرنسية الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب بترجمة عاطف عبدالمجيد عام ٢٠١٧، وشغلتنى تلك النعومة والجاذبية الكبيرة التى كانت تتمتع بها، وبعد صدور كتاب «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى» عدت مرة أخرى إلى الديوان، ووقفت هذه المرة أمام سؤال حى وجوهرى فى حياتها؛ لما كل هذا الحزن المهيمن على حياتها؟ وكيف لفتاة عشرينية تتحدث بكل تلك الشراهة عن الموت وأشباحه؟ ومن هنا جاء العمل على هذا الكتاب؛ فقد تكشف لى مع الوقت تفاصيل وملامح شخصيتها، وطبيعتها الداخلية قبل الخارجية وحدود فهمها للعالم، وكيف جمعت داخل نصوصها جميع المتناقضات، بين حب الحياة والخوف منها، وسطوع الأبيات ووضوحها، والقصائد الملغزة الغامضة، وكيف كتبت بنفسها مراثى حقيقية لوجودها ونهايتها، دون أن يشعر بذلك المحيطون بها، ودون أن تفقد ملامح الطفولة والبراءة اللذين شكلا معظم وهجها الإعلامى.
■ الكتاب تناول قضايا هامة مثل علاقة سلوى حجازى بنجوى إبراهيم وواقعة الطائرة المنكوبة وغيرها.. حدثنا عن مراحل البحث فى هذا العمل؟
- رحلة البحث عن «سلوى» دامت قرابة العام والنصف عام؛ وهى رحلة مقاربة لرحلة كتاب «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى» من حيث تكنيك الكتابة ومنهجية البحث، فقد كان الأرشيف الصحفى للمرحلة هو الأساس الذى بنى عليه معظم الكتاب، فقد تراوحت مصادر الكتاب بين أرشيف المجلات والصحف اليومية وهى الأدق زمنيًا فى تحديد الوقائع ورسم صورة واسعة للشخصية وحياتها.
ولكن ما كان مميزًا فى تلك الرحلة هو دور شعر سلوى حجازى فى توضيح انفعالاتها الذاتية، ومحاولة ربط تلك القصائد بالصورة العامة والمشهورة والمنشورة لها فى الصحف المصرية، فجزء كبير من فهم حياتها جاء من تلك القصائد التى كتبت «سلوى» معظمها لتحتفظ بها فى درج مكتبها لا لنشرها، ومن هنا جاءت الشفافية التى اتسم بها شعرها، وأوضحت هواجسها تجاه الحياة والموت بالتحديد، لكن ربما أهم ما فى تلك الرحلة كانت أوراقها الشخصية والتى تفاجأ بها الجميع، فعند بداية تواصلى مع عائلة سلوى حجازى فى ديسمبر ٢٠٢٣ كان رد العائلة على سؤالى حول أوراقها ومسوداتها الشعرية أن معظم تلك الأوراق قد فقدت بعد رحيلها.
ولكن بعد شهور من البحث وجدت العائلة ما كان خفيًا وضائعًا لمدة خمسين عامًا، عندما عثر الأستاذ آسر شريف نجل سلوى حجازى على مجموعة ضخمة من الأوراق بخط يدها، ومجموعة هائلة من القصائد الفرنسية، وجمل محذوفة من قصائد منشورة سابقًا، وملاحظات منفصلة عن سياق الأوراق التى وجدت، ويوميات متفرقة ورسائل شخصية بينها وبين ليلى رستم، وأفكار كتبتها لبرامجها التليفزيونية قبل التصوير، ومسودات لقصصها الخاصة بالأطفال، ومجموعة ضخمة من الصور النادرة التى لم تنشر من قبل، بالإضافة إلى مسودات لترجمات حاولت «سلوى» أن تنفذها عن الفرنسية، وهو ما كان فتحًا جديدًا فى فهم «سلوى» كإنسانة وشاعرة قبل أن أحاول كتابة خط النهاية، ووجه الشهيدة.

■ ماذا عن خط النهاية ومرحلة الشهادة التى أخذت نصف الكتاب بالكامل؟
- ربما كانت هذه المرحلة هى الأعقد والأصعب، خصوصًا فى وجود كم هائل من التحقيقات الصحفية والأخبار المتناقلة عن الحادثة، بالإضافة إلى الشائعات التى ما زالت راسخة فى الأذهان، وربط تلك الشائعات بسياقات تاريخية عديدة ليس لها أى أساس على أرض الواقع، ومن هنا جاءت صعوبة فك شفرة الحادثة، ومحاولة تتبع كل ما كتب فى زمن الجريمة، سواء فى الصحافة المصرية أو العربية أو حتى العالمية، لتكوين صورة شاملة عن الحادث وفهمه جيدًا، وطبعًا الشهادات كان لها دور رئيسى فى السردية التاريخية، خاصةً شهادة الطيار الذى قاد سرب الفانتوم، ونفذ العملية والذى نشرت شهادته فى سبتمبر ٢٠٢٣، والشهادة المحيرة للإعلامية الكبيرة نجوى إبراهيم، والتى جعلتنى أقف طويلًا أمام ذلك الصمت الطويل والذى دام قرابة الخمسة عقود، وأحاول فهم ذلك الصمت المتعمد تجاه ما جرى، وأضع كل السيناريوهات الممكنة التى تجعل شهادة الإعلامية نجوى إبراهيم لها سياق حقيقى داخل سيرة «سلوى»، خاصةً أن الشهادة كانت مفاجأة للجميع، ولم يكن عند أى أحد سابق معرفة بتفاصيل ما حكته الإعلامية الكبيرة.
■ لم تنح المنحى التقليدى للكتابة لكنك بدأت من لحظة وجودها مع أحمد بهجت على متن طائرة.. لماذا اعتمدت هذا المسار؟
- تعمدت بدء الكتاب بتلك القصة التى حكى تفاصيلها الكاتب الكبير أحمد بهجت فى مجلة «الجديد» الأدبية فى مارس ١٩٧٣، وهى قصة لها دلالة واضحة فى سيرة «سلوى»، وربما تكون اختزالًا كاملًا لمصيرها الإنسانى، وحدود استيعابها لمنطق الحياة وحتمية الموت، ولذا كان ذلك المشهد ضروريًا حتى أضع القارئ فى ذلك العالم، وأجعله من الصفحة الأولى يفهم كيف تفكر «سلوى»، وبالتالى يسهل عليه استيعاب نظرتها للحياة، وتقبل هواجسها الداخلية.
أما عن باقى خطوط الكتاب ومساراته الزمنية، فقد قررت مع العائلة أن يكون الكتاب فقط عن وجوه «سلوى» المعروفة، وجه الضوء ووجه الشعر ووجه الشهيدة، وألا أتطرق إلى حياتها الشخصية قبل التليفزيون، وذلك لعدة أسباب أولها عدم وجود شهادة واضحة وكاملة عن حياتها قبل التليفزيون، وثانيًا لعدم أهمية ذلك فى بناء العمل، نعم هناك استرجاع مشاهد من طفولتها تحدث فى الكتاب مثل فى فصل «تحت الشمس فى بورسعيد» ولكنها مشاهد تساعد فى تدعيم النص والمرحلة المعنية بالعمل.
كما أن القارئ لا يهمه كثيرًا معرفة أمور شخصية لا تفيد فى فهم الشخصية، وأنا ما زلت عند رأيى أن زمن السيرة الذاتية التى تتناول الحياة من الميلاد إلى الرحيل قد انتهى، فهذه النظرة الشاملة توجد فى الموسوعة الحرة على الإنترنت، وما يشبهها من مواقع، لكن المنهجية الجديدة فى كتابة سير الأعلام تجنح إلى اقتطاع مرحلة محددة من حياتهم، وإعادة قراءتها وفق المتاح من مصادر وأرشيف ومعلومات.

■ المرء يشعر بموته.. هل كانت سلوى حجازى تستشعر رحيلها عبر ما كتبته فى ديوانها «أيام بلا نهاية»؟ وما الذى تعنيه عبارتك أنها عاشت الموت نفسه قبل موتها؟
- سلوى كانت شاعرة بكل معانى الكلمة، ولديها تلك الحساسية تجاه حياتها ومستقبلها، لذلك فى كل قصائد ديوانها الأخير، تتأكد النظرية القائلة بشعورها بالموت واستشرافها الكامل لمستقبل حياتها، وبالمناسبة نجد بوادر تلك النظرة التشاؤمية تجاه الحياة فى قصائد ديوانها الأول المنشور فى مارس ١٩٦٤، ففى قصائده أبيات عديدة ومتفرقة تتحدث فيها عن سوء طالعها، فتقول فى إحدى القصائد التى ترجمها المترجم القدير عاطف عبدالمجيد:
«أعانى من الوسواس
أتنبأ بمستقبلى
أتوقعه مليئًا بالمصائب
ومقدمًا عليه أبكى
أرى الموت محدقًا فىّ»
واللافت أن تلك النظرة التشاؤمية تجاه الحياة قد جمعت مجموعة شاعرات فى زمنها، ربما تأثرت بهن «سلوى»، أو ربما نمط الحياة فى الستينيات فى العالم وضعهن فى تلك الزاوية الشعرية، فنجد شعر سلوى متقاربًا فى تلك الجزئية مع شاعرات عالميات مثل سليفيا بلاث وآن سكستون والشاعرة الإيرانية فروغ فرخزاد، جميعهن كانت تسيطر عليهن تلك الروح الغامضة، وذلك الخوف من الحياة، وتظهر فى أشعارهن مساحات واسعة من ترقب الموت وانتظاره، وهو ما قصدته كليًا بعبارة «عاشت موتها قبل أن تموت»، فقد عايشت هواجس الموت والفقد فى عز سنوات شبابها، كان يشغلها غيابها المبكر والذى تعاملت معه على أنه يقين لا مجرد خاطر شيطانى.
وتعاملت مع موتها على أنه حقيقة ثابتة وحتمية قادمة لا محالة وفى صورة فاجعة، ومن هنا تلبستها تلك الروح الحزينة فى تعاملها مع محيطها البشرى، وجعلتها تعيش غيابها قبل الغياب الجسدى والمادى.

■ تكشف فى كتابك عن وجه رابع لسلوى حجازى وهو المترجمة.. لدرجة أنها ترجمت لكتّاب عالميين مثل فيكتور هوجو؟
- هذا الوجه لم يكن معروفًا أبدًا، ولم ألمس دليلًا عليه حتى مع قرب نهاية كتابة الكتاب إلا مع ظهور أوراقها الشخصية الضائعة، فعندما طالعت الملف المغلق الذى يحتوى على ما بقى من أوراقها لاحظت أنها كانت قد حاولت الترجمة، بترجمة قصيدة من الفرنسية للإنجليزية كتبها ممتاز سلطان كتحية للمناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، وهى مسودة وجدتها مكتوبة بالآلة الكاتبة وموقعة باسم «سلوى» ومؤرخة بأبريل ١٩٦٢.
أما الاكتشاف الأخطر فهو ما تركته من ترجمات لقصائد فيكتور هوجو، وتحديدًا لقصيدتى «حصار باريس» وقصيدة «أمواتنا» وهى ترجمات تحمل دلالات وطنية وسياسية، وتنتصر إلى الذين يدفعون حياتهم ثمنًا لحرية أوطانهم، وهو ذات المعنى الذى سيطبق على «سلوى» بعد ذلك، عندما استشهدت فوق سيناء الحبيبة فى فبراير ١٩٧٣.

■ كتبت عن سلوى حجازى لكنك فى أواخر الكتاب أرّخت لحادث الطائرة المنكوبة بأسماء الشهداء وبعض صورهم؟
- لم أكن أبدًا أنوى الكتابة عن الشهداء وأن أحاول تتبع سيرة بعضهم فى الكتابة، ولكن بعد مرحلة معينة من العمل وجدت نفسى محاصرًا بالكلية بسيرتهم، وشعرت بأنهم عاشوا قرابة الخمسين عامًا فى منافى التاريخ، دون أن يكون هناك ذكر واضح ووجوه معروفة ومحفوظة فى ذاكرة مصر، لذا قررت أن أخصص جزءًا من سيرة الموت فى حياة «سلوى» لهؤلاء الذين كتب عليهم أن يموتوا وتموت معهم سيرتهم.
وربما ساعدنى ذلك ما نعيشه فى عالمنا العربى، وما نشاهده من تحول شهداء فلسطين إلى مجرد أرقام فى نشرات الأخبار، لذا سعيت بكل الطرق الممكنة إلى رسم بورتريه شخصى لكل شهيد مصرى كان على متن الطائرة، وربما لو كان عندى مزيد من المساحة لكتبت عن كل الشهداء العرب الذين فقدوا حياتهم على يد آلة القتل الصهيونية، ولكنى شعرت بأن الكتاب قد يطول، وينحرف إلى تأريخ للحادثة فقط ويفقد ارتباطه الحقيقى بـ«سلوى»، فالمصريون الذين استشهدوا كانوا على الأقل شهداء على لحظة غياب «سلوى»، وعاشوا معها قبل ذلك اليوم لحظات السعادة وهم يشاهدونها على الشاشة الصغيرة، وقدر لهم أن يعيشوا معها أقسى لحظات حياتها وهى محاصرة بالطائرات الحربية داخل علبة من الصفيح فى الجو فوق سيناء.

■ فى البداية كتبت عن أم كلثوم وبعد ذلك عن سلوى حجازى وكلتاهما يرتبطان ببعضهما.. هل هذا يقع ضمن مشروع كبير تعمل عليه؟
- مشروع «سلوى» هو ابن لمشروع «أم كلثوم»، خاصةً أن الاثنتين فى ذات المرحلة التاريخية، لكنى أعتقد أن كلمة المشروع كلمة واسعة وكبيرة على كاتب ما زال يخطو خطواته الأولى؛ نعم هناك أحلام ومشاريع أتمنى العمل عليها، ولكنى كنت قد قررت ألا أكتب إلا عن الشخصيات التى بينى وبينها صلة روحية، وأن يكون المشروع مرتبطًا بالسياق العام للمجتمع، بمعنى أن التاريخ الشخصى لا يمكن فصله عن التاريخ المجتمعى، والشخصيات العامة لا يمكن قراءتها بمعزل عن قراءة تاريخ مصر السياسى وتأثير المتغيرات التاريخية على حياة المشاهير وربما نهايتهم مثل «سلوى»، لأن هذا يمنح القارئ صورة عامة وشاملة للزمن وشخوصه وأحداثه، ويجعله يفهم أن تقف الشخصية فى محيطها الإنسانى، لذا فالعمل المقبل هو أيضًا مرتبط بعصره ومشتبك معه، وإن كنت أؤمن تمامًا بأن هناك مشاريع تولد فى لحظة، وتغير القدر وتأخذ الكاتب إلى نواح جديدة لم يكن يفكر فيها، لذا آمل فقط أن يكون المشروع المقبل على قدر الجودة السابقة، حتى وإن كان بعيدًا عن نمط الكتابين السابقين.