لو بطلنا نضحك نموت..
مؤلف «المضحكخانة» محمد غنيمة: «توم وجيرى» أصله فرعونى

- المصرى القديم أول من اخترع فن «الكاريكاتير»
- «الميمز» و«الكوميكس» وراء تراجع إصدارات الكتب الساخرة الآن
- الرومان حظروا المحاماة فى الإسكندرية بسبب تهكم المحامين على قضاتهم
أصدر الباحث محمد غنيمة العديد من المشاريع التاريخية والتوثيقية، من بينها: «لم يصبه العرش.. دسائس ومؤامرات الأسرة العلوية»، و«ذاكرة النخبة.. أوراق ومراسلات نادرة من التاريخ الحديث»، و«عروش تتهاوى». واستمرارًا لنهجه التوثيقى التاريخى المميز، دار الكتاب الجديد لـ«غنيمة»، الذى يحمل عنوان: «المضحكخانة.. سياحة فى تاريخ مصر الفكاهى»، عن دار «الرواق» للنشر والتوزيع، حول تاريخ النكتة والسخرية فى مصر، بداية من زمن «الفراعنة» حتى عصرنا الحالى.
ويحمل الكتاب العديد من القصص التى تبين التفرد الذى حمله المصريون فى ساحة الكوميديا والسخرية والضحك، وكيف أنهم استخدموا كل هذا لمواجهة المحتلين والطغاة، بل والتهكم على واقعهم الذاتى، وصولًا إلى امتلاكهم حق اختراع فنون ساخرة عديدة من بينها «الكاريكاتير»، إلى جانب الفضل فى الرسوم المتحركة الأشهر على مستوى العالم «توم وجيرى».
عن أبرز هذه القصص، وما جاء فى الكتاب من تفاصيل حول تاريخ مصر الفكاهى، يدور حوار «حرف» التالى مع الباحث محمد غنيمة.

■ بداية.. كيف جاءتك فكرة كتاب «المضحكخانة»؟ وكيف عملت عليه؟
- الفكاهة واحدة من السمات الأصيلة فى المجتمع المصرى، ودائمًا ما يوصف المصرى بأنه «ابن نكتة». والحقيقة أننى حينما قررت خوض هذا الغمار السخى سألت نفسى سؤالًا: هل هذه المقولة «شيفونية» ومغالاة فى حب الوطن أم حقيقية؟ لذا قررت التعمق والبحث فى كل ما يمكن البحث فيه للرد على هذا السؤال.
هذه محاولة منى لفتح مشروع بحثى كبير عن جذور الفكاهة المصرية وتأصيلها، لفهم شخصية المصرى الحقيقية من باب خفة الظل والفكاهة، فالضحك والسخرية يجريان فى دم المصرى كجريان النيل فى قلب أرضه، وبأريحية تامة تجد المصرى يقلب ثقل وقع وعبء الأحداث الجسام، ويحيلها إلى أحداث ضاحكة، وسخرية ربما لا تنتهى حتى يومنا الحالى.

■ تقدم فى كتابك أشبه بسياحة فى تاريخ مصر الفكاهى منذ الفراعنة حتى عصرنا الحالى.. هل استطعت تغطية كل هذه الفترة الزمنية؟
- تأصلت روح الفكاهة وخفة الظل والمرح فى نفس الشعب المصرى منذ التاريخ القديم، وربما منذ الأزل، لذا درس الفكاهة والسخرية المصرية الكثير من الفلاسفة والمؤرخين، وانبروا فى تدوين قصص ونوادر الضحك والمضحكين، خاصة هذا النوع من الفكاهة الذى يتماس مع نقد الحياة الاجتماعية اليومية، وكذلك الأحوال الشخصية.
والفكاهة المصرية لا يمكن أبدًا رصدها أو تأصيلها أو حصرها فى كتاب أو حتى مجموعة كتب، فهى تحتاج إلى مُجلدَات ضخمة، وستظل المسألة أيضًا غير مكتملة؛ لذا حينما فكرت فى العمل كان على شكل مشروع، بادرة منى للتعمق أكثر وأكثر، فألوان الفكاهة المصرية متشعبة ومتنوعة بشكل يفوق التصور وحد الخيال.
■ ذكرت فى كتابك أن «توم وجيرى» ذو أصول مصرية.. ما القصة؟
- الفكاهة فى مصر ليست وليدة اليوم أو العصر الحديث، وإنما هى قديمة قدم الحضارة الإنسانية نفسها، ويقال إن المصريين القدماء كانوا يعتقدون أن العالم خُلق من الضحك، فحين أراد الإله الأكبر أن يخلق العالم أطلق ضحكة قوية فكانت أرجاء العالم السبعة، ثم أطلق ضحكة أخرى فكان النور، ثم ضحكة ثالثة فكان الماء، وهكذا تم خلق الكون من الضحكة السابعة.
سجل أجدادنا المصريون الأوائل ضحكاتهم وفكاهتهم على أوراق البردى وجدران معابدهم، وحتى على قبورهم أيضًا، وكأن الضحك قدس من أقداس الحياة فى أرض مصر، بل ولا عجب أن صنع المصرى القديم لنفسه «إلهًا للضحك والمرح» سُمى بــ«الإله بس».
الفنان المصرى القديم جسد «الإله بس» على هيئة قزم، وجمع فى ملامحه بين شكل الإنسان وهيئة القرد، فهو منتفخ الوجنتين والعضلات، ومترهل الثديين، وواسع العينين، مبتسمًا مخرجًا لنا لسانه من فمه، مؤكدًا بذلك خفة ظله، كما أن المصريين القدماء سجلوا نكاتهم على قطع من الأحجار اللينة، مثل الأحجار الجيرية، أو على الفخار، فيما يعرف بأنه الإرهاصات الأولى لفن «الكاريكاتير».
ومنها أيضًا ما ذكرته حول ما رسمه لنا الفنان المصرى القديم فى عصر «الاضمحلال الثالث»، مجموعة من الفئران القوية، كونت جيشًا عظيمًا يهاجم حصنًا منيعًا للقطط، وتتغول الفئران على القطط، وترشقها بالسهام، ثم تصعد على الحصن المنيع بسلم، وتدخله تحت قيادة زعيمهم المفدى وقائدهم الهمام، الفأر القائد العظيم، المدجج بعربته الحربية التى يجرها كلبان قويان، بينما تقف القطط مذعورة مرتعشة خائفة من هول بطش الفئران بها.
وربما تذكرنا هذه الصور بالرسوم الكاريكاتيرية التى قدمها جوزيف باربيرا وويليام هانا، فى عام ١٩٤٠، تحت اسم «توم وجيرى»، التى غزت العالم كله بلطفها وفكاهتها، ليتبين أن صراع القط والفأر ليس بقريب، وإنما منذ ٣٣٠٠ ق. م.
■ هل هناك قصص أخرى مشابهة فى هذه المنطقة؟
- يبدو أن للقطط دورًا كبيرًا وهامًا فى الفكاهة المصرية القديمة، فعلى عزار المثل الشعبى المصرى: «سلموا القط مفتاح الكرار»، جاء الفنان المصرى فى عصر «الرعامسة» ليبرز هذا المثل بدقة، فالدكتور عبد العزيز صالح «عميد كلية الآثار بجامعة القاهرة سابقًا» يلفت النظر إلى قطعة من «الأسترواكا»، وهى قطع منقوشة من الفخار، تصور قطًا فى يده عصا ويرعى بها الأوز. صور الرسم القط وهو يحمل فى يده عصا من البردى ذات نهاية معقوفة، وهو يقود الأوز البرى، فى تلميح واضح على تصوير الحيوانات وهى تؤدى مهام الإنسان العادى.
ومن النقوش المهمة التى رصدت الفكاهة المصرية القديمة، تلك اللوحة التى تقبع على الجدار الرئيسى لمعبد «حتشبسوت» فى الدير البحرى، وتوثق زيارة الملك «باريحو» حاكم بلاد «بونت» لمصر، والذى اصطدم بنقش الفنان المصرى، الذى صور زوجته بشكل ساخر، فأمعن فى إظهارها شديدة السمنة، وأبرز منها الدهون، كما قلدها شعرًا مستعارًا، هذا غير الحمار الضعيف الذى يظهر فى اللوحة، مكتوبًا عليه: «هذا الحمار الذى يحمل الملكة».
وقد علق على هذه اللوحة الكاتب الأمريكى وأستاذ التاريخ القديم، وليم ورد، قائلًا: «لقد أضاف الفنان المصرى ببساطة تفاصيل مُسلية عن البعثة، وبالتالى منح أولئك الذين جاءوا للمشاركة فى طقوس المعبد ضحكة مكتومة بينما تمر المواكب».
ولم تكن جدران المعابد والمقابر الأداة الوحيدة التى عبر عليها الفنان المصرى القديم عن فكاهته وخفة ظله، بل أيضًا على أوراق البردى، ففى المتحف البريطانى هناك بردية، صور عليها الفنان المصرى القديم أسدًا يلاعب وحيد القرن، فى لعبة أشبه بـ«الشطرنج»، ويتضح من الرسم أن الأسد هو الرابح؛ لأنه يضع يداه على الأموال، أو ما كانا يلعبان لأجله، فى حين ينظر إليه وحيد القرن فى امتعاض شديد وحسرة أكبر.
■ من واقع تتبعك لتاريخ مصر الفكاهى.. كيف استخدم المصريون النكتة فى السخرية من المُحتل تحديدًا؟
- يكمن لدى المصرى القديم- وما زال- سلاح سرى فتاك، يستعمله وقت الحاجة ضد الغزاة والمحتلين، هذا السلاح هو السخرية، التى كانت ملجأه وقت الأزمات، يخفف بها عن هموم الحياة، ويجابه به التعسف الذى يلقاه.
وما ترك المصرى القديم مُحتلًا، سواء من الفرس أو الإغريق أو الرومان، حتى وجه إليه سهام سخريته وتهكمه، حتى إن الشاعر الإغريقى «ثيوكرتوس»، الذى عاش فى الإسكندرية، خلال القرن الثالث قبل الميلاد، يقول: «إنهم شعب ماكر لاذع القول روحه مرحة»، فى إشارة واضحة منه على ذكاء المصريين فى استخدام السخرية كحيلة ماكرة لمجابهة التعسف، بينما يؤكد المؤرخ أحمد أمين أن «المصرى كان يلجأ إلى السخرية تعويضًا عن شعوره بالكبت، وتنفيسًا عن الضائقات التى تعسر عليه حياته».
ويذكر المؤرخ اليونانى القديم صاحب كتب «السير الموازية»، بلورتاخ، أن الملك الفارسى أوخوس، عندما تعامل مع المصريين بفظاظة ووحشية، وأعدم الكثيرين منهم، وذبح «العجل المقدس» وجعله وجبة عشاء له وأصدقائه، لم يعدم المصريين من حيله، فأطلقوا عليه لقب «الحمار»؛ لهذا كان من ذكاء الإسكندر الأكبر، أنه حينما حاول التقرب إلى المصريين، قدم الأضاحى للإله «أبيس» نفسه الذى كان سببًا فى إطلاق لقب «الحمار» على الملك الفارسى. ربما كان يدرأ غضب وسهام سخرية المصريين منه.
وهذا بطليموس الثانى عشر لم يسلم من هذه السهام، فلقبه المصرى بـ«الزمار» لولعه الشديد بالعزف على الناى، وهذا الإمبراطور سليوقس لُقب بـ«بائع السمك المتجول». بينما لُقب القيصر بـ«النسناس المدلل الصغير».
ولم يكن فى يد الرومان من حيلة سوى أن زادوا من تعسفهم، وغلظوا أحكامهم، حتى باتت أحكامهم مضحكة لنا الآن بعد كل هذه القرون، فمثلًا حظروا المحاماة فى محاكم الإسكندرية، لأن المحامين السكندريين كانوا يقللون من هيبة القضاة الرومانيين بقفزهم بالسخرية والمرح أثناء الدفاع وشرح القضايا، كل هذا التعسف لم يزد المصرى سوى إمعانًا فى السخرية والضحك، ولم يمنعهم أبدًا من مقاومتهم الخفية بالسخرية.
■ فى عصرنا الحديث كان هناك هروب دائم من وضع الأسماء على الكتب الساخرة، مثل «مذكرات عربجى».. لماذا فى رأيك؟
- مع الانتشار الواسع لكتابة المذكرات، رأى الفكاهيون المصريون أن الوقت موطن خصب لإظهار الجانب الساخر، ويمكن تسمية هذه النوعية بـ«المذكرات الفئوية للحرف»، فظهرت مثلًا «مذكرات نشال» و«مذكرات عربجى» و«مذكرات فتوة» و«مذكرات وصيفة مصرية» و«مذكرات خالتى أم سيد»، وغيرها من المذكرات، حتى وصل الحال إلى أن ظهرت مذكرات لبغى.
ويمكن ملاحظة سمتين مشتركتين بين كل هذه المذكرات، هى أنها مكتوبة بالعامية المصرية، وموقعة باسم مستعار، لأسباب مختلفة، منها مثلًا محاولة تأكيد أن صاحب المذكرات هو كاتب هذه المذكرات وليس أديبًا مقتدرًا. مثلًا «مذكرات فتوة» من توقيع المعلم يوسف أبوحجاج، و«مذكرات نشال» من توقيع عبدالعزيز النص، و«مذكرات عربجى» من توقيع الأسطى حنفى. وربما أيضًا خوفًا من تقبل أوساط النخب الثقافية هذه النوعية من النقد اللاذع.
■ ذكرت أن «الصحافة الفكاهية» انتشرت بقوة فى نهاية القرن التاسع عشر.. ما السر فى رأيك؟
- المتأمل لتاريخ الصحافة المصرية فى نهايات القرن التاسع، أو تحديدًا فى عصر الخديوى إسماعيل، يرى بوضوح أن السمة الأغلب والطابع الأهم هو ظهور ما يعرف بـ«الصحافة الفكاهية أو الساخرة»، وبزغ وقتها اسمان لهما الفضل الأكبر فى انتشار هذا النوع من الصحافة، هما يعقوب صنوع وعبدالله النديم، واللذان أسسا لمجموعة من الصحف المهمة آنذاك، مثل «أبونظارة زرقا» بأشكالها وأسمائها المختلفة ليعقوب صنوع، و«التنكيت والتبكيت» و«الطائف» و«الأستاذ» لعبد الله النديم.
تميزت تلك المجلات أو الصحف بأنها تُكتب للعامة والخاصة وكل طوائف المجتمع، كما أنها حملت لواء الكتابة بين العامية والفصحى، لتكون فى يد كل مصرى يرغب فى الفكاهة ونقد حاله الاجتماعى ومن ثم حالة البلاد.
كانت هذه الصحف لسان حال المصرى، يجابه بها العدوان والطغيان، ومنها ظهر ما يعرف بـ«الساخرون»، الذين كان لهم الدور الرئيسى والمُحرِك فى هذه التجارب، مثل يعقوب صنوع وعبد الله النديم وعبدالعزيز البشرى وإبراهيم عبدالقادر المازنى وفكرى أباظة وحسين شفيق المصرى وبيرم التونسى ومحمد مصطفى حمام وكامل الشناوى وبديع خيرى ومحمود السعدنى وأحمد رجب وعبدالله أحمد عبدالله، وغيرهم الكثيرون.
■ فى نهاية كتابك قلت: «هذا مشروع كبير ليس له خاتمة».. هل معنى ذلك أن ننتظر كتبًا أخرى مقبلة؟
- بالطبع، سأحاول قدر اجتهادى توثيق الفكاهة المصرية وفنونها، والتى أرى أنها تحتاج أعمارًا فوق عمرى وعمر كل من يطرق لها بابًا، وأتمنى أن أكمل يومًا ما أخطط له فى توثيق الشخصية المصرية من باب الفكاهة.
■ لماذا تراجع إصدار الكتب الساخرة فى مصر خلال الآونة الأخيرة؟
- الفكاهة فى مصر تتفق مع طبيعة العصر، فهى متجددة دومًا وأبدًا، ومع هذا العصر المتسارع، بدأت الكتابة الساخرة تتخذ أشكالًا أسرع فى الانتشار، وأصبحت موطنًا لشبكات التواصل الاجتماعى، فالفكاهة تتغذى على الانتشار الواسع، بالتالى فأنسب الطرق لها هو العالم الرقمى، الذى يجد فيه الساخر رد فعل سريعًا، وهذا ما يفسر ظهور أشكال جديدة على منصات التواصل الاجتماعى، مثل «الميمز» و«الكوميكس» وغيرهما من الأنماط التى تناسب هذه السرعة.