تعزيز الهوية لمواجهة «الأفروسنتريك»
تأسست الأفروسنتريك أو «الحركة المركزية الإفريقية» على يد الناشط الأمريكى الإفريقى الأصل موليفى أسانتى فى فترة الثمانينيات، من أجل تنمية الوعى حول الثقافة الإفريقية عبر التاريخ، وتسليط الضوء حول تلك الهوية وأهميتها لاسيما فى الولايات المتحدة وأوروبا. كما تحاول نشر الوعى حول كيفية هيمنة الأوروبيين على حضارة الأفارقة، عبر الاستعمار والعبودية، وتحث كل إفريقى أو منحدر من أصول إفريقية على تقدير أصوله وتنمية وعيه ومعرفته بالحضارات الإفريقية التقليدية.
وتدعى الأفروسنتريك أن التاريخ والثقافة الإفريقية انطلقت من مصر القديمة، التى شكلت مهد الحضارة العالمية، كما زعم الإسرائيليون أن أجدادهم بنوا الأهرامات وكل هذا نوع من التمسح فى أعظم حضارات العالم لافتقادهم إلى أصول حضارية خاصة بهم.
ولا شك أن كل هذا نوع من أنواع الغزو الفكرى الذى يستهدف ضرب الهوية المصرية بالتمسح فى حضارتها، وبالتالى فإن مواجهة ذلك يتطلب تعزيز الهوية والشخصية المصرية لمجابهة هذا الغزو الفكرى.
والهوية بضم الهاء تعنى «هو» أى من أنت على المستوى الشخصى ثم الجمعى فى البيئة المحيطة وصولًا إلى الوطن بشخصيته وموروثاته الحضارية، وينطلق الإطار المعرفى لتأكيد الهوية المصرية من خلال مبادئ المقومات الثقافية فى الفصل الثالث بالدستور المصرى مادة ٤٧ «تلتزم الدولة بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية بروافدها الحضارية المتنوعة»، ويعد التنوع الحضارى تميزًا واستثناءً خاصًا للحضارة المصرية.
والهوية والشخصية المصرية مستمدة من تسلسل تاريخها عبر العصور منذ عصور ما قبل التاريخ، مرورًا بعصر مصر القديمة إلى الفترة البطلمية، ثم الرومانية والبيزنطية والمسيحية والإسلام، والعصر الحديث والمعاصر وكل عصر ترك مفردات حضارية، وتأثيرات فى اللغة والعادات والتقاليد مازالت حتى الآن.
ومن أمثلة ذلك عيد شم النسيم وارتباطه برموز عايشها المصرى القديم وأطعمة مستمرة حتى الآن، فالسمك حفظه المصرى القديم، وتبارك به لاعتقاده بأن النيل ينبع من الجنة، والبيض كان المصرى القديم ينقش عليه الدعوات ويضعها على فروع الشجر، والخس ارتبط بالخصوبة والمعبود مين، والبصل قاتل الفيروسات وكان قاتلًا للأرواح الشريرة فى أساطير المصرى القديم، وما زالت تأثيرات اللغة المصرية القديمة فى العامية المصرية مثل حاتى من حات حرى الجزء السفلى من قدم الماشية «الكوارع»، نونو من نو بمعنى طفل، مكحكح من كحكح تعنى كبير السن، ميح من ميح وتعنى فارغ، إنتش وتعنى شرير، السح الدح إمبو من إنبو وتعنى طفل.
كذلك الألعاب الرياضية مثل لعبة التحطيب المسجلة تراثًا عالميًا لا مادى ٢٠١٦، وهى لعبة مصرية قديمة، حصان المولد المستوحى من تمثال «حورس» راكبًا الحصان ممسكًا بالسيف ليقتل رمز الشر «ست» والذى صور على هيئة تمساح، هو نفسه فى المسيحية قتل القديس مارجرجس للتنين، وعروسة المولد من كرانيش إيزيس وأجنحتها، وأيضًا الاحتفاليات مثل احتفالية دخول العائلة المقدسة واستمرار تمثيلها حتى الآن ولها ترانيم خاصة وأشعار حتى الآن واحتفاليات توديع الحجاج واستقبالهم، وما ارتبط بها من موسيقى وأغانٍ ورسومات الجمل والباخرة والطائرة على المنازل.
هذا إلى جانب الاحتفاليات الوطنية خاصة فى بورسعيد والإسماعيلية فى شم النسيم بحرق دمية اللورد اللنبى التى أوفدته بريطانيا عقب ثورة ١٩١٩ مندوبًا ساميًا، وأذاق المصريين الأمّرين وكيف يغنون له أغنية مشهورة «ياللنبى يابن حلمبوحة، مين قالك تتجوز توحة، ياللمبى يابن الخواجاية، مين قال لك تعملى حكاية، أمك مليانة ملوحة، راسك عالحيط مدبوحة، إخية عليه، اللمبى بيه» ثم يحرقوا الدمية ويتناولون الفسيخ والبيض ويخرجون للحدائق.
والمؤكد أن هذا التواصل الحضارى فى الشخصية المصرية أصبح ضمن المعايير التى سجلت على أساسها آثارنا تراث عالمى باليونسكو، فحين تسجيل القاهرة التاريخية تراث عالمى عام ١٩٧٩ قالت عليها اليونسكو إنها «أقدم مدن التراث الحى» بمبانيها وفنونها وعادات وتقاليد أهلها والحرف التراثية المتواصلة والمستمرة من الخيامية والنحاسين والمغربلين وارتباطها بعادات رمضان وزيارة سيدنا الحسين وخان الخليلى والأكلات والمشروبات المرتبطة برمضان.
ختامًا:
إن تعزيز الهوية يتطلب وعيًا متكامل بقيمة الهوية فى التعليم والإعلام والثقافة بتدريسها فى مراحل التعليم ليس بشكل مقرر بل فى شكل أنشطة إجبارية، وفى الإعلام تخصص برامج للتعريف بالهوية وكيفية تعزيزها والحفاظ عليها كجزء لا يتجزأ من الانتماء، واستضافة علماء فى تخصصات مختلفة لتوضيح ذلك والانتقال بالكاميرات لنقل الصورة الميدانية لمظاهر الهوية فى كل مناسبة دينية أو وطنية أو مرتبطة بأعياد قومية للمحافظات
وفى الثقافة أن يقوم المجلس الأعلى للثقافة المسئول عن تنفيذ السياسة الثقافية لمصر ونشر الوعى بقيمتها بتوثيق وتسجيل كل المعارف المرتبطة بالهوية، تمهيدًا لعمل ملفات لتسجيلها تراثًا لامادى فى اليونسكو مثل الاحتفالات الدينية والموالد والأكلات الشعبية الشهيرة مثل الخبز بأنواعه العيش الشمسى بالصعيد، والمرحرح بوجه بحرى، وأنواع الكعك المستمدة من مصر القديمة، والكشرى والفلافل والأكلات والمشروبات المرتبطة بشهر رمضان، والمنتجات التراثية المتنوعة التى تعكس ثقافات محلية بسيناء والوادى الجديد والنوبة والفيوم والعمارة والفنون والموسيقى والأغانى والعادات والتقاليد المرتبطة بهذه المواقع التى تمثل ثقافة متميزة ضمن هوية وشخصية مصر، وتوثيق سير الزعماء الوطنيين والقادة أبطال المعارك الحربية فى حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر المجيدة والعلماء والأدباء الفنانين الذين تركوا بصمة فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر، والحدائق العامة المرتبطة بذاكرة المكان والزمان للمحيطين بها كما سجلت فى ذاكرة السينما المصرية مثل حديقة الأندلس، وركن فاروق، وحديقتى الأورمان، والحيوان، وغيرها المرتبطة بأشجار نادرة ومعمّرة.