هناك دائمًا رواية أخرى.. فمَن يقدر عليها؟
عندما أصدرنا «حرف» كجريدة ثقافية، لم يكن فى نيتنا أن نفسّر المفسر أو نبيّن المبين أو نحكى المحكى، قررنا ألا نكون أسرى للروايات الثابتة والراسخة، التى أصبحت مقدسة فى حياتنا الثقافية ما مضى منها وما حضر.
اخترنا أن نكون أصحاب الرواية الغائبة.. فدائمًا هناك رواية أخرى.
عندما أخبرنى الصديق العزيز الكاتب والأديب، طايع الديب، بأنه يريد نشر مقال عن كاتبنا الكبير محمود السعدنى، وافقت على الفور، ولم يجعلنى أتردد ما قاله طايع من أن المقال يخالف ما استقر عليه الجميع حول السعدنى، فهو ينال منه، ولا يمدحه على عادة من يكتبون عن الكاتب الساخر الكبير ويتغزلون فيه، ولم يرهبنى ما قاله من أن هناك آخرين رفضوا نشر المقال.
عقيدتى فى الصحافة بنيتها مبكرًا على حكمة عربية قديمة تقول: إنه لا شىء فوق هذا التراب لا يُرى، ولا شىء يُرى إلا ويُذكر، ولا شىء يُذكر إلا ويخلد، وعليه فلا يوجد ما يمنعنا من نشر المخالف لما استقر عليه الناس، ولنترك الأمر للنقاش والحوار والجدل.
لدينا دائمًا رواية أخرى فيما يتعلق بالأفكار والأحداث والأشخاص أيضًا، ولكن ليس معنى ذلك أننا نمتلك الحقيقة المطلقة، فلا يقدر على ذلك أحد أو يتحمله، إننا نقول فقط ما نعتقد أنه صواب من وجهة نظرنا، وهو ما يمكن أن يكون خطأ من وجهة نظر أخرى.
إن المجتمع الحى هو الذى يظل قادرًا على طرح الأسئلة.
المجتمع العاجز عن طرح التساؤلات ويحاول البحث عن إجابات لها هو مجتمع فى حقيقته ميت تمامًا.
ولأننا لسنا كذلك، فإننا سنظل نطرح الأسئلة، حتى لو دخلنا بها إلى المناطق الشائكة، وما أكثرها فى حياتنا الثقافية.
سنظل نفتش فيما لم يُنشر؛ حتى لو اقتحمنا بذلك حقول الألغام.
سنظل نبحث وننقب ونطرح عليكم ما نصل إليه حتى لو غضب منا البعض، وقاطعنا البعض، وطاردنا البعض فى المحاكم.
فمن حق الناس أن يعرفوا ما جرى.. وللمعرفة ثمن يجب أن يدفعه الجميع.
يشكك كثيرون فى تاريخنا السياسى، هناك اتهامات لمن كتبوا هذا التاريخ بأن الهوى هو من حكمهم، وأن أقلامهم لم تكن بأيديهم، ولكنها تحركت بأيدى الآخرين، ولم يلتفت أحد إلى أن تاريخنا الثقافى عانى نفس المعاناة، وهنا يأتى دورنا.. فليس على رأسنا بطحة، من يعملون فى «حرف»، ومعظمهم من الشباب، متصالحون مع أخطائهم، ولذلك ستجدون على صفحاتنا طوال الوقت ما لن تعثروا عليه فى مكان آخر.
فى صيف عام ٢٠١٥ كتبت حلقات عن الكاتب الكبير أنيس منصور، ذهبت فيها إلى ما يخالف الكثير مع ما استقر فى الوجدان العام عنه وعن كتاباته، وقتها جلست مع المفكر الكبير الراحل السيد يسين، ودون مقدمات قال لى: لقد قرأت ما كتبته.. وأعتقد أننا فى حاجة بالفعل لإعادة النظر فى تاريخنا الثقافى.. لا بد من باحث يجمع ما تفتت وتشتت وتبعثر، ويعيد رسم الصورة من جديد.
اعتبرت ما قاله مفكرنا الكبير وصية واجبة التنفيذ، وها نحن نحاول أن نقوم بذلك لوجه ما نعتقد أنه الحقيقة فقط.
كل ما أتمناه ألا يضيق صدر أحد بنا.
فنحن لا نسعى إلى التجريح، ولا إلى إهالة التراب على رموزنا الثقافية، فهؤلاء ليسوا إلا بشرًا، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وعليه نحن نسعى إلى رسم صورة واقعية وحقيقية لما جرى، ليعرف الجميع ما حدث دون تزوير ولا تحريف ولا تزييف.
هذه رسالتنا فى «حرف» التى ندعو الله أن يعيننا عليها.
ونتمنى من الله أن يشرح صدوركم لها.
الباز