الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

أنا مى زيادة.. على حسن: غلبنى البكاء وأنا أكتب عن حياتها

مى زيادة
مى زيادة

- أوصت بتأكد الأطباء من موتها طبيعيًا ودفنها بعد يوم على الوفاة

- مَن كَتبوا عنها تناولوها كعاهرة تنتقل من كنف أديب لعناق شاعر

- ما أثير عن غراميات الراحلة محاولة بائسة من بعض الكتاب للتربح

لا تريد مى زيادة أن ترحل أبدًا، فهى رغم غياب جسدها منذ عقود طويلة تظل متشبثة بالحياة بصورة يصعب تفسيرها، فلم يخفت بريقها لحظة ما، ولم ينضب الحديث عن مأساتها ومسيرتها يومًا واحدًا، لتتحول رغم كل ما دار ويدور حولها من جدل، إلى أسطورة تشبه الأساطير العجيبة التى يقرأ الناس عنها فى حكايات «ألف ليلة وليلة».

الكاتب الروائى على حسن واحد من الذين فتشوا عن سر تلك الأسطورة، عبر روايته «أنا مى زيادة»، التى فاز عنها بجائزة اتحاد كتاب مصر «فرع السرد»، قبل أيام، ويكشف فيها عن جوانب مخفية، ويفكك الكثير من النظريات حول حياة تلك الأديبة العظيمة.

«حرف» أجرت حوارًا مع الكاتب على حسن حول روايته وكواليس كتابتها، وما تحويه من مفاجآت وأسرار فى حياة مى زيادة.

على حسن

■ نلت جائزة اتحاد الكتاب عن رواية «أنا مى زيادة».. كيف كانت رحلتها منذ الفكرة حتى حصولك على الجائزة؟

- الآنسة مى زيادة أيقونة العشرينيات وحتى نهاية الأربعينيات من القرن الماضى دون منازع. ٢٥ عامًا من المجد الأدبى، صاحبة أعظم صالون ثقافى فى القرن العشرين. كتب عنها كثير من عمالقة عصر النهضة أيام مجدها بتودد وانبهار وآخرون تملقًا وتزلفًا، وسرعان ما تبدل وقت مأساتها إلى قليل من رثاء وشفقة وكثير من تشفٍّ وحقد على نابغة الشرق.

ثم توالت بعد رحيلها؛ كتابات لم تخلُ أبدًا من إسفاف وإثارة، واستغلال وتربح، بنشر أكاذيب واختلاق روايات وهمية، ومثل هذه الحكايات تجد صدى لدى بعض القراء الباحثين عن التسلية والنميمة.

وكان كتاب «غرام الكبار فى صالون مى زيادة» للكاتب أنيس الدغيدى هو أول كتاب يقع فى يدى عن «مى». هالنى ما فيه من خيال جامح، ترك الكاتب خياله يعربد كما يشاء فى حياة «مى» ومغامراتها كأنها فتاة لعوب، غايتها إغواء الرجال! هذا الكتاب كان دافعًا كى أستكشف عالم «مى زيادة» الغامض.

بدأت رحلتى مع الآنسة «مى» متأثرًا بعوامل الانتشار وسهولة الاقتناء وشهرة بعض الكتاب الذين تناولوا حياتها، فبدأت بكتاب «الذين أحبوا مى» للشاعر كامل الشناوى ثم كتاب «أطياف من حياة مى» لطاهر الطناحى، ثم كتاب «حياة الرافعى» للكاتب محمد سعيد العُريان، وكلها كتابات صادمة، تحتوى على أخطاء تاريخية فادحة، لم تعدم أسلوب الإثارة واجتذاب القارئ بما تحتويه من قصص خيالية، ناهيك عن أنها كُتيبات تسهل قراءتها فى سويعات لكن أثرها البالغ يبقى فى الوجدان طويلًا. 

وأحمد الله أننى بعد أكثر من خمس سنوات قضيتها فى البحث ومراجعة كل ما كُتِبَ عن «مى زيادة» حياتها، شخصيتها، أفكارها، كتاباتها، كذلك دراسة حياة كل من ارتبط بها أو دار فى فلكها وكتاباته بما تجاوز أكثر من مائة وثلاثين مؤلفًا ومرجعًا، كل هذا جعل الصدق والحقيقة يتجسدان فى رواية تحمل اسمها وتتحدث بلسانها «أنا مى زيادة».

بلغ بى الأمر أننى تماهيت مع «مى» تمامًا، فكتبت فصول الرواية بألم أرهقنى، وكثيرًا ما غلبنى البكاء وأنا فى عزلتى ساعات الكتابة الطويلة، لهذا كانت الجائزة التى أعتز بها جدًا، ولأنها جاءت من بيت الكُتاب والمبدعين.

■ قلت إن مى زيادة مادة للمتقولين والمنتفعين.. لماذا؟

- إن كل ما قرأناه عن غراميات الآنسة «مى» لم يكن إلا كذبًا وتدليسًا وتزويرًا للحقائق والتاريخ، ومحاولة بائسة من بعض الكتاب للتربح على حساب أديبة قلما يجود الزمان بمثلها، ومن أسف أن الاهتمام بالآنسة «مى» لم يكن عبر أدبها ومؤلفاتها وأفكارها التى سبقت عصرها وتقديم كل ذلك إلى الشباب لتكون مصدرًا لفخرهم واتخاذها قدوةً تستحق التقدير والثناء، وإنما تناولوا سيرتها كعاهرة تنتقل متمنعة أحيانًا، وراغبة أحايين من كنف أديب إلى عناق شاعر! تلك هى المأساة الكبرى!

■ وصفت حياتها بأنها لم تكن هادئة يومًا.. كيف ذلك؟

- حملت «مى» فى عقلها أفكارًا جليلة ومبادئ سامية، وفى قلبها محبة بحجم الكون للإنسانية دون التفات إلى دين أو عرق أو مبادئ وأفكار، لكن الطعنة جاءتها بيد أقرب الناس إليها، جوزيف ابن عمها!

قبل أن تغادر مى زيادة هذا العالم تركت وصيتها، تركتها على مكتبها فى شقتها الصغيرة التى اعتزلت بين جدرانها العالية كل الذين حاولوا استغلالها والنيل من عقلها وتاريخها، والفوز بأموالها وميراثها الضخم ومكتبتها الجبارة.

لقد أكدت مى فى هذه الوصية عدم ثقتها فى كل أقاربها، وأنها تحذرهم جميعًا من الاقتراب من جسدها، حتى يتأكد الأطباء من موتها ميتة طبيعية، وألا يتم دفنها إلا بعد مرور ٢٤ ساعة من خروج الروح!

لم تعر مى زيادة أى اهتمام للذين تعاملت معهم واكتشفت عدم أحقيتهم فى مودتها وتقديرها، قطعت علاقتها بكل هؤلاء الذين استفادوا من وجودها، من عبقريتها ونبوغها، من جمال روحها، من ألق صالونها الأدبى الذى تاق الحضور إليه كبار أدباء ذلك العصر الذهبى.

لم تعبأ مى بالأسماء الكبيرة من رجال الأدب والفكر والثقافة، لم تعر أحدًا منهم اهتمامًا أو تبجيلًا غير جدير بهما، قاطعتهم جميعًا، اكتفت فقط بالذين أحبوها، وبذلوا الوقت والجهد والمال والحب من أجل انعتاقها من سجن العصفورية. حاولت رد الجميل إليهم، بادلتهم ودًا بود، وتقديرًا بتقدير، تلك حياة مى.

■ هل يمكن اعتبار مى زيادة المعادل الموضوعى لسعاد حسنى أدبيًا وثقافيًا؟

- قطعًا لا. الفنانة سعاد حسنى كانت فى الأداء وفن التمثيل عبقرية مصرية لن تتكرر، عاشت سنوات مجد، ثم تعرضت لاكتئاب فى نهاية المطاف، استسلمت له فانتحرت أو ماتت مقتولة، لا يستطيع أحد أن يجزم بنهايتها، لكنها لم تكن لديها ما لمى زيادة من ثقافة مهولة، وبدايات مفعمة بالنبوغ والعبقرية. 

«مى» نالت شرف التواجد فى عصر النهضة، كانت رائدة الحركة النسوية، وفرع أصيل من شجرة الفكر والثقافة والأدب مع الرعيل الأول من الأدباء والمفكرين، أتقنت تسع لغات، أول فتاة تلتحق بالجامعة المصرية القديمة عام ١٩١٤، زاملت طه حسين وزكى مبارك، أدارت جريدة والدها «المحروسة» فى الخامسة والعشرين من عمرها، لكنها تعرضت فى نهاية حياتها لمأساة زلزلت كيانها، دخلت مستشفى العصفورية- مستشفى الأمراض العقلية فى بيروت- ظلمًا، لم تستسلم أبدًا، امتنعت عن الطعام والشراب كى تجبر الطامعين فيها والذين أهانوها فى أعظم ما تملك- عقلها- على إخلاء سبيلها والعودة إلى وطنها مصر.

■ ما النواحى الجديدة التى كشفت عنها فى شخصية وإبداع مى زيادة؟

- ما اكتشفته بعد قراءة عميقة لأدب نابغة الشرق، أنه أدب حى، لا يمحوه الزمن، والدليل أن كتاباتها لا تزال تزين أرفف المكتبات ويطلبها الشباب. «مى» زيادة شخصية مثابرة، قادرة على التحدى، تصمد وتقف ثابتة دون تراجع حتى الرمق الأخير، تعتز جدًا بأنها فتاة عربية، شرقية، تحترم دينها، عقلها، قلمها، جسدها، أسرتها. قدست العلم، عشقت المعرفة. عند وفاة والدتها «نزهة خليل معمر» فى ٢٨ فبراير ١٩٣٢، سافرت مى إلى لندن والتحقت بجامعتها، ثم إلى باريس والتحقت بالسوربون، ثم أخيرًا إلى نابولى- إيطاليا، حيث درست الفن وعلم الآثار والتراث الإيطالى بجامعة «بيروجيا»، فتاة كهذه ليست كأى فتاة أبدًا، بل هى كما أطلق عليها أستاذها الدكتور يعقوب صروف «الدرة اليتيمة»، من هنا كانت مأساة مى زيادة، إنها «مأساة النبوغ»!

■ هل ظلمت معاصريها أم هم الذين خذلوها؟

- لم تظلم مى أحدًا؛ كانت فتاة رقيقة، ربما المعاصرون لها هم الذين ظلموا أنفسهم. جميعم شعراء وأدباء كانوا يفتقدون «الملهمة» تلك التى تشعل فى القلب جذوة الإبداع، لهذا رأى هؤلاء «مى» على أنها عروس أحلام ملهمة، تلهب المخيلة الشعرية، وحين هوى نجمها، واجهت مأساتها فى العصفورية وحيدة، لم يقف إلى جانبها إلا القليل منهم.

■ أشرت إلى أن مأساة مى زيادة تقدم إلينا مأساة المرأة العربية.. كيف ذلك؟

- لأننى تناولت حياة «مى زيادة» عبر فتاة مصرية من صعيد مصر- مريم عبادة- عانت ظلم أهلها تمامًا كما عانت «مى»، فسوف يجد القارئ أن الرواية تأريخ صادق ورصد كامل لحياة ومسيرة «مى زيادة»، كما أن هذه المأساة ممتدة مع فتاة مصرية تلقى المصير نفسه من التهميش والرغبة فى سيطرة الأهل عليها وسرقة كيانها وميراثها تمامًا كما حدث مع «مى» رغم مرور أكثر من ثمانين عامًا حيث تنتهى أحداث الرواية فى الأول من يناير عام ٢٠١٤، كل هذا رغم ما يدور حولنا من مزاعم حول احترام حقوق المرأة ودعم حريتها واستقلالها المادى والمعنوى. مأساة المرأة العربية فى كل زمان ومكان تكمن فى نظر الرجال إليها على أنها متاع «خُلِقت لمتعته» مع تفوقها فى التفكير والتعليم والخبرة. 

مأساة «مى» أنها تفوقت على جميع رجال عصرها بثقافتها الواسعة وأدبها واللغات التى أتقنتها، مأساتها فى شاعريتها ورومانسيتها، وقدرتها على اقتحام عالم ذكورى بامتياز، واستقبالهم فى بيتها، وهم أصحاب فكر وثقافة وأدب. مأساتها أن كل هؤلاء ليس لديهم ما يبعث الروح فى أقلامهم ويجدد فى عقولهم الإبداع ويشعل الإلهام فى قلوبهم، فاتخذوها ملهمةً. مأساة «مى» أنها عاملت برقى واهتمام كل رواد صالونها حتى اعتقد كل ضيف أنه صاحب الصالون، ولأنها جميلة لم تخلُ نظرات بعض هؤلاء- رغم ليبراليتهم وتحررهم- لها على أنها «امرأة».

■ كيف ترى الجوائز الثقافية؟.. وهل انتشارها أدى لظهور اتجاهات بعينها فى الأدب وتحديدًا الرواية؟

- الجوائز الثقافية تسهم فى انتشار الكاتب وعمله الأدبى، لكن بشرط ألا يكون هدف الأديب عند الكتابة هو الحصول على الجائزة، أو الانتشار. فكل هذه الأمور لا تخلق عملًا بديعًا يستمر. إن الجائزة الأولى للأديب هى كلمة «رائع» يقولها قارئ استمتع بالعمل. لا يهم إن كان العمل قصة قصيرة أو رواية، ربما يعيش أديب فى ذاكرة الكتابة بقصة قصيرة واحدة، ولا يذكره أحد بعد عشرات الروايات.

ربما لأنى أعشق عالم القصة القصيرة، لأنه مذهل، مدهش، كاشف لقدرة الأديب الإبداعية ومدى تأثيره فى القارئ بأقل الكلمات. لذلك لا يلج عالم القصة القصيرة إلا أديب صالح للبقاء، يصنع فى وجدان القارئ وعقله خيالًا يرقى إلى الواقع ويتفوق عليه.

لكن القارئ يرغب دائمًا فى أن يعيش اندماجًا كاملًا، طويل الأمد مع حكاية بعينها، مع شخوص وأحداث مترابطة، لذلك وعن تجربة، اكتشفت أن القراء من الأصدقاء يفضلون هذا النوع من الأدب، وأسهمت الجوائز فى ترسيخ هذا الاختيار بل وفى نوعيته!

لكنى حين أرغب حقًا فى متعة حقيقية، ألم يشبه ألم الوضع، ألجأ إلى القصة القصيرة، إذ تعتصر قلبى، عقلى، أفكارى، تجاربى، فيخرج إلى الوجود عصيرًا مركزًا بالغ الثراء، عذابه حلو المذاق.

وأخيرًا الجائزة ليست مقياسًا لبراعة الأديب وجمال الرواية، فكثيرًا ما أقع فى شرك «روايات الجوائز» فتصدمنى، ربما لأن الجائزة تخضع كثيرًا لذائقة لجنة التحكيم من نقاد وكتاب وأكاديميين.

■ ما جديدك مع قرب حلول معرض القاهرة للكتاب؟ 

- أقدم للقارئ المصرى والعربى المجموعة القصصية الثالثة بعنوان «حشرات سوداء»، والتى صدرت منذ أيام عن «بيت الحكمة للثقافة»، وأتمنى أن تنال إعجابهم.

■ هل فكرت فى تحويل الرواية لعمل درامى؟ 

- كتبت هذه الرواية بعد أن حصلت على دورة فى كتابة السيناريو الاحترافى، وكنت حريصًا على استخدام أساليب تجعل من تحويلها إلى عمل درامى غير عسير، وليس سرًا أنى قد أدرت عدة حوارات مع بعض المخرجين وكتاب السيناريو، لكن يبدو أن الوقت لم يحن لتجسيدها على شاشة التليفزيون أو السينما، أعتقد أنها ستكون عملًا دراميًا بديعًا ورائعًا يسهم فى إنصاف «مى زيادة» بكل تأكيد.