الجمعة 27 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

عمائم وطرابيش.. محمد عبدالباسط عيد: غياب الناقد أدى إلى عُزلة النقد والأدب معًا

 محمد عبدالباسط عيد
 محمد عبدالباسط عيد

- نحتاج نقدًا أدبيًا يخرج من ضيق الأكاديمية إلى دوائر الثقافة العامة

- تركنا النقد لمثقفين ونقاد يحدثون بعضهم فى دوائر ضيقة

- النقد طوال تاريخه يشتبك مع الواقع والحالى مشغول بالشكل الجمالى

- «عمائم وطرابيش» ينشغل بأسئلة طفولية عن كل ما يحيطنا من علامات

أصدر الدكتور محمد عبدالباسط عيد، أستاذ النقد وتحليل الخطاب بجامعة أسوان، كتابه الجديد «عمائم وطرابيش وكلمات.. قراءة فى العلامة»، عن دار «العين» للنشر والتوزيع.

يتوجه «عيد» فى هذا الكتاب إلى الواقع، والعلامات والنصوص التى يستخدمها عموم الناس، وفيه ينشغل بأسئلة بسيطة وطفولية حول العلامات التى تحيط بنا ونستخدمها عشرات المرات فى تعاملاتنا اليومية.

ينشغل الكتاب بتلك الأسئلة عن معنى كلمة ما، ويبحر فى العلامات التى صاغت مفاهيمنا الأساسية عن كل شىء. لهذا وأكثر التقت جريدة «حرف» الدكتور محمد عبدالباسط عيد، فكان هذا الحوار.

■ صدر لك مؤخرًا كتاب «عمائم وطرابيش وكلمات.. قراءات فى العلامة».. فى أى سياق معرفى يمكنك إنزال هذا الكتاب ضمن كتاباتك بشكل عام؟ 

- يأتى هذا الكتاب ضمن انشغالى بشكل عام بمفهوم «المراجعة» و«المراجعة النقدية» بشكل خاص، مراجعة علاقتنا بالتراث من جهة، وعلاقة نقدنا بالثقافة الغربية من جهة أخرى، انطلاقًا من ضرورة تجاوز مرحلة النقل «المنهجى» عن الثقافة الغربية التى قام بها الجيل السابق من النُقاد، إلى مرحلة أخرى أتصور أنها ضرورية، ولك أن تطلق عليها مرحلة «التفاعل الثقافى» والاشتباك المفهومى، وتطوير الأدوات عبر التفاعل الحى مع النصوص العربية وأسئلة الواقع وهمومه.

من زاوية أخرى، يأتى هذا الكتاب ضمن انشغالى الشخصى بضرورة تحديث الخطاب النقدى، والخروج به من ضيق الدوائر الأكاديمية والتلقى النخبوى إلى دوائر الثقافة العامة. وهذا الهدف لا يعنى أى انتقاص أو تقليل من قيمة البحوث الأكاديمية وأهميتها وحاجتنا إليها. لكنه يعنى ضرورة وجود خطاب نقدى يخرج من أروقة الأكاديمية إلى مخاطبة الجمهور العام، مع التسلح بالمنهجية والانضباط الأكاديمى فى الوقت نفسه.

■ لماذا تسعى وراء هذا الهدف بالتحديد؟

- تاريخ النقد الأدبى العربى المعاصر، خاصة فى مصر، كان- فى أحد تجلياته- جزءًا من الثقافة العامة والاشتباك المباشر- اليومى أحيانًا- مع النصوص والأحداث الجارية، وهذا ما جعل الذاكرة الثقافية حتى اليوم تجلّ أسماء كبيرة من الأكاديميين وغيرهم الذين أثروا تلك الفترة، أمثال: طه حسين والعقاد والمازنى ومندور وعبدالقادر القط وغيرهم.

نحن فى لحظة حضارية تحتاج إلى إثارة الأسئلة ومراجعة ما نقدمه وما سبق تقديمه. نحتاج إلى مراجعة آليات التفاعل مع النماذج الغربية طوال العقود الماضية، وإلى فتح نقاش حر ومتصل يمكنه أن يبلور رؤى وتيارات حول ما نرجوه لممارساتنا النقدية الآنية: مناهجها ولغتها وغاياتها، وعلاقة هذه الممارسة بالمتلقى، ودور النقد الأدبى تحديدًا فى تشييد الوعى العام.

قضينا زمنًا طال بأكثر مما يجب، انشغل فيه النقد بالشكل الجمالى، وعزل النص الأدبى عن السياقات الاجتماعية والثقافية المحيطة به على مستويى الإنتاج والتلقى. والأهم أنه عزله عن القارئ العام الذى بدأ، منذ ثمانينيات القرن الماضى، يطالع نقدًا يعز عليه متابعة لغته التجريدية وجهازه الاصطلاحى الصعب، فترك النقد- غير آسف- لثلة من المثقفين والنقاد «يحدثون بعضهم فى دوائرة ضيقة»، على حد تعبير شيخنا المبجل شكرى عياد، فى تسعينيات القرن الماضى. بعبارة أخرى، لقد أدى غياب دور الناقد على المستوى الثقافى العام إلى عزلة النقد والأدب معًا، وهذه كله ليس فى مصلحة أحد، ومما يجب تداركه.

■ كيف تشكلت هذه القناعة لديك؟

- لم تتشكل هذه القناعة مرة واحدة، فقد كانت بداياتى، شأن أى دارس، أكاديمية خالصة، وأنجزت فيها عدة كتب كان المخاطب فيها هو القارئ المختص. بدأ ذلك قبيل مناقشة الدكتوراه فى دار العلوم جامعة القاهرة ٢٠٠٨، وتحديدًا مع كتاب «النص والخطاب قراءة فى علوم القرآن»، ومع الدكتوراه ذاتها «بلاغة الخطاب قراءة فى شعرية المديح» ثم فى أكثر من كتاب بعد ذلك، لعل أبرزها كتاب «الخطاب النقدى.. التراث والتأويل».

ولكنى مع كتاب «خباء النقد والشعر»، الذى صدر فى ٢٠٢٣، وكنت قد أنجزته قبل ذلك بـ٣ أعوام، بدأت التفكير فى مراجعة ما رسخه جيل الأساتذة من ممارسات نقدية، ومراجعة ما أكتبه أنا تحديدًا. وكان هذا الكتاب مجرد فكرة تناولتُ من خلالها بعض أبيات معلقة امرؤ القيس على صفحتى بموقع «فيسبوك»، ولاقت استحسان المهتمين بالنقد وغيرهم من دوائر المتابعين الذين لا تربطهم بالنقد صلة مباشرة، أو الذين سبق لهم أن تخلوا عنه لصعوبته.

ثم بدأ النقاش حول هذه الفكرة، وتساءلتُ مع بعض المهتمين من الأصدقاء والكُتّاب: كيف نكتب نقدًا يمكنه الوصول إلى الناس بلغة سلسلة وبسيطة، وجميلة أيضًا، وفى الوقت نفسه لا يتخلى عن العلمية وضوابطها وشرائطها، حتى لا ينزلق إلى متاهات الانطباعية وفقاعاتها؟، فأنا آخر من قد يدعو إلى الانطباعية، وأكثر من يحذر منها.

■ من الأسئلة البسيطة تكون كتاب «عمائم وطرابيش وكلمات».. كيف كان هذا؟

- يأتى هذا الكتاب فى هذا السياق الذى أتوجه فيه بالكلية إلى الواقع المعيش، إلى العلامات والنصوص التى يستخدمها عموم الناس، وفيه انشغل بأسئلة بسيطة، ولك أن تقول طفولية حول العلامات التى تحيط بنا ونستخدمها عشرات المرات فى تعاملاتنا اليومية.

قد يكون السؤال حول معنى كلمة، فماذا تعنى لك مثلًا كلمة: «باب» أو كلمة «أستيكة»، أو «زينة»، أو «شهوة». وقد ننتقل بالسؤال إلى الملابس، فنتساءل مثلًا: لماذا يوجد الزى الوطنى؟ ولماذا ينتشر «الجينز» فى العواصم العربية؟ لماذا يضع المثقف النهضوى الطربوش على رأسه رغم أنه يرتدى البدلة الغربية؟ ولماذا يضع الشيخ الشعراوى طاقية بسيطة فوق رأسه ولا يضع العمامة الأزهرية التقليدية؟.. إلخ. هذه الأسئلة البسيطة حول هذه العلامات تفتح لك بابًا لا حد له من التأمل ومتابعة دنيا العلامات، وكيف تبرز، وكيف تتراجع، وما تنطوى عليه من رسائل عامة وخاصة؟.

■ هل هذا يعنى أننا بصدد توسيع لمفهوم النص؟

- بالتأكيد، نحن هنا إزاء «النص الرّحب»، النص الثقافى الذى يضم مختلف العلامات التى نتعامل معها فى حياتنا اليومية والثقافية بشكل عام. والقارئ الآن يدرك أن النقد الأدبى، ومن زاوية ثقافية خالصة، أصبح يتعامل مع مفردات الثقافة المختلفة باعتبارها علامات ونصوصًا.

مثلًا بعض الكتب فى تاريخنا المعاصر لم تعد كتبًا بالمفهوم الضيق الذى يقصر مفهوم الكتاب على ما بين الدفتين الثقيلتين، بعض الكتب غدت علامات مؤثرة، وهل بمقدور ناقد الآن أن يتحدث عن كتاب «الشعر الجاهلى» لطه حسين، أو كتاب «الديوان» للعقاد والمازنى، أو كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلى عبدالرازق، أو كتاب «مفهوم النص» لـنصر أبوزيد، وغير ذلك، باعتبارها مجرد كتب؟

نحن هنا إزاء علامات بما انطوت عليه من أسئلة، وبما أحدثته من تحولات ثقافية ومعرفية، وبما أثارته من نقاش موسّع وقراءات يصعب حصرها اختلفت واتفقت. هذه الكتب تشبه الحجر الذى نلقيه فى الماء فتتخلق من حول مركزه دوائر تتسع وتتسع حتى تنفك رؤاها وأطروحاتها فى دوائر أخرى وعلامات أخرى. 

وعلى هذا، فبعض الكتب علامات، وبعض الكلمات علامات، وكذلك اللوحات الفنية والملابس والعمارة والطرق وماركات السيارات وبيوت الموضة وعلب الزينة وألوان الأطعمة وطريقة تقديمها.. كل هذه علامات ونصوص.

■ بماذا نسمى هذه الممارسة؟ 

- نحن بصدد مفهوم للنص لك أن تطلق عليه «نصًا بلا شاطئ»، نصًا يتابع كل ما تقع عليه عينك، ويبحث فيما بين العلامات من علاقات، وما تحت العلاقات من أنساق. نحن إزاء نص إنسانى، والإنسان بفطرته خالق علامات، العلامات تكسب الأشياء هويتها وكينونتها، ولا يتوقف الإنسان عن الخلق والابتكار، وكيف ذلك والعلامات سبيله لفهم الكون من حوله، وهى أيضًا سبيله للتواصل مع غيره وترسيخ هويته وتأكيد امتيازه؟

أضف إلى ذلك أن الثقافات الحيّة، ومنها ثقافتنا بالتأكيد، تمتاز بتنوع علاماتها، إذ لا توجد ثقافة تقتصر على بُعد واحد من العلامات. والأهم أنه لا توجد ثقافة تعمل أنظمة علاماتها بمعزل عن بعضها. وإذا كانت العلامات تنقسم إلى طبيعية «اللغة والكلام»، وغير طبيعية «أنظمة الملابس والعمارة..إلخ»، لا تعمل هذه الأنظمة منفصلة، بل تتداخل وتتقاطع وتشكل «الكُل» الثقافى الذى نصفه بالثقافة العربية أو الإنجليزية أو غيرهما. 

وهذا الكتاب مشغول بالعلامتين معًا، اللغة الطبيعية واللغة غير الطبيعية، فى تقاطعهما مع مختلف الأنساق والأفكار، وقدرتهما على الكشف عن المناطق العمياء أو المسكوت عنها ثقافيًا. وما يشغلنى هنا تحديدًا هو البحث عن الدلالة أو المعنى، وطرق بنائه، وكيف يهيمن ويتمدد؟ ودوره فى استمالة الناس وإقناعهم.

بمعنى آخر: إن كل مظاهر الثقافة ومخرجاتها التى نلمسها ونعيش معها وبها يومنا ليست مجرد ظواهر ثقافية فحسب. لكنها بالأساس وحدات تواصلية، جزء من دلالة أوسع، هى أنساق الثقافة الكامنة والمتشكلة تاريخيًا والمتحولة اجتماعيًا، والهدف الأعلى من هذه القراءات هو النظر فى طبيعة العقل الثقافى وآليات اشتغاله، ومناط تأثيره.

هذا ما يجعل العلامات نصوصًا، ويجعل النصوص «وقائع ثقافية» شديدة التركيب. هذا ما أطلق عليه «تقشير الكلمات» أو العلامات، أى البحث فى طبقات الدلالة، وكيف تهيمن دلالة على أخرى، وكيف تطمس دلالة دلالة أخرى. بعض الكلمات تحتاج إلى إعادة الاعتبار لقيمتها وحضورها المؤثر على نمط الحياة وأشكال التفاعل بين الناس.

■ فى ضوء كل ما قُلت.. إلى أى منهج نقدى ينتمى كتابك الجديد إذن؟

- هذه القراءة تنتمى إلى حقل «السيميوطيقا الثقافية». ولأن كتاب «عمائم وطرابيش وكلمات» أتوجه به إلى جمهرة القرّاء، آثرت تشغيل المفهوم دون المصطلح، وأنت تعلم أن مصطلحات النقد المعاصر تأتى من عدة حقول معرفية ذات طبيعة لسانية ونفسية وأنثربولوجية...إلخ، وهى مجالات ليس من اليسير تبسيطها للقارئ دائمًا، وحتى لو فعلنا، تظل غريبة الوقع على أذن القرّاء، وتوجد حاجزًا بينهم وبين ما نقدم إليهم من مقالات ومنشورات.

لذلك، تحاشيت فى هذا الكتاب أمرين، الأول هو الدخول فى السجالات النظرية حول «سيميوطيقا الثقافة»، فضلًا عن التورط فى شرح ما بين تياراته من مساحات اتفاق واختلاف، والثانى هو الإكثار من ذكر مصطلحاته، فكثيرًا ما أكتفى بتشغيل المفهوم والإشارة إلى المصطلح فى الهامش، بهدف توفير بيئة مناسبة تمتاز بالسلاسة والقدرة على التواصل المستمر مع القرّاء، خاصة وأنا أتناول عشرات العلامات التى يشاهدونها ويتعاملون معها بشكل يومى.

■ طرحت فى «حلقة القاهرة النقدية» الثانية مفهومًا خاصًا للممارسة النقدية، هل يمكننا إلقاء مزيد من الضوء عليه؟

- صحيح، أنا أدعو النقاد دائمًا، وهم ينزلون المنهج على هذا النص أو ذاك، إلى محاورة المفهوم نفسه، والعمل على ترهيفه وتخصيبه. أظن أن هذا هو دور النقد فى هذه المرحلة، مرحلة ما بعد نقل النظريات الغربية إلى الثقافة العربية. لا يكفى اليوم أن ينزل الناقد المنهج على النص، وكأنه غايته تقديم المنهج والتدليل على قدرته ودقته. كما أن النقد لا يجب أن يقنع بعمليات التأويل التى تكشف عن مناطق العماء فى النص. رغم أهمية ذلك كله، وكثيرًا ما يرضينا الناقد الذى يؤدى هذا الدور، أطمح إلى شىء أبعد من ذلك، فى هذه المرحلة النقدية من تاريخنا، أطمح إلى دخول الناقد، عبر الممارسة التطبيقية، فى سجال مع المفاهيم التى يعمل على تشغيلها، فهذه فى النهاية مجرد مفاهيم، ونحن لدينا ثقافة ولدينا واقع وإشكاليات، ومن المهم أن ننتبه إلى دورنا فى تخصيب المنهج وترهيف مفاهيمه، واستحداث مفاهيم جديدة، تناسب النص والقارئ والواقع والأسئلة التى تخص اللحظة العربية المعاصرة.

ذا ما دعوت إليه، وهذا هو الدور النقدى كما أفهمه، وكما أزعم أننى حاولت تنفيذه فى كتابىّ الأخيرين: «خباء النقد والشعر» و«عمائم وطرابيش وكلمات». وأتمنى أن أكون قد وفِقت فيما أزعم.