الأربعاء 02 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

على هامش موسم رمضانى متقلب المزاج.. دراما «الضرورة» فى مواجهة دراما «السوق»

افتتاحية العدد الثانى
افتتاحية العدد الثانى والستين

 - هناك من يحاول أن يهيل التراب على ما أنجزته الدراما المصرية منذ سنوات ولا تزال تقوم به عبر تنوع موضوعاتها واهتماماتها

- غابت مصر الطبيعية عن الدراما المواز ية وظهرت مصرية غريبة ومنفرة لا نعرفها ولا نأنس إليها ولا نطمئن لوجودها

قبل سنوات جلس مسئول كبير فى اجتماع موسع مع عدد من المسئولين عن إعادة صياغة الإعلام المصرى بعد ٣٠ يونيو. 

كان المسئول مستاء بعد مشاهدته حلقات مسلسل «فوق مستوى الشبهات» الذى لعبت بطولته الفنانة الكبيرة يسرا، وعرض فى موسم دراما رمضان العام ٢٠١٦. 

كان المسلسل باختصار يدور حول حياة الأستاذة الجامعية رحمة حليم المتخصصة فى التنمية البشرية، التى تظهر أمام الجميع طوال الوقت بمظهر السيدة الناجحة فى كل مجالات حياتها وعملها، لكنها فى الواقع تخفى وجهًا آخر أكثر قبحًا ووحشية وشرًا. 

أبطال المسلسل كانوا يعيشون فى كمبوند، دارت على أرضه مجموعة من الجرائم التى أزعجت المسئول الكبير الذى قال لمن اجتمع بهم: هل نحن أمام مرحلة جديدة تقوم فيها الدراما بشيطنة الكمبوند بعد أن قامت من قبل بشيطنة الحارة المصرية لسنوات طويلة؟ هل نحن أمام محاولة جديدة لتصوير سكان الكمبوند على أنهم مرضى نفسيون وقتلة، كما سبق وصورنا أهالى الحارة الشعبية على أنهم بلطجية ولصوص وتجار مخدرات؟. 

الملاحظة كانت فى محلها، وأعتقد أن الإجراءات التى جرت على الدراما المصرية خلال السنوات الماضية كانت انعكاسًا لها تحديدًا، فقد كانت هناك رغبة أن تكون الدراما عونًا للمجتمع وليست عونًا عليه. 

كانت الدولة المصرية تسعى بكل قوتها، تسابق الزمن لتبنى وتعمر تواجه الإرهاب وتعمل جاهدة لإزالة آثاره، وكانت تريد من الدراما التى تعرف قوة تأثيرها أن تلعب دورًا فى المعركة الكبرى، وهى معركة الوعى، لكن أصحاب شركات الإنتاج لم يعزفوا نفس اللحن الذى أرادته الدولة. 

يعرف صناع الدراما أن هناك خلطة محددة تعجب الجمهور، وهى التى تكون قادرة وحدها على جذب الإعلانات، وهى التى تجعل العمل مطمعًا للقنوات الفضائية والمنصات لتشتريه وتعرضه أكثر من مرة، وبذلك يحقق المنتج المكاسب التى يستهدفها. 

كانت هناك مقاومة كبيرة من صناع الدراما، هم يريدون أن يقدموا ما يضمن لهم الأرباح التى يريدونها، والدولة تسعى إلى أن تكون الدراما سلاحًا فى معركة حقيقية على الأرض، ولم يكن أمامها تجاه الممانعة التى وجدتها إلا الدخول لإنتاج أعمال أطلقت عليها وقتها «دراما الضرورة». 

فى دراما الضرورة شاهدنا مسلسل «الاختيار» بأجزائه الثلاثة، وشاهدنا مسلسلات مثل «هجمة مرتدة» والعائدون» و«حرب» و«مليحة» وأخيرًا المسلسل الملحمى «الحشاشين». 

مسلسل «الاختيار»

إلى جوار هذه المسلسلات بدأت الدراما تتخلص من أمراضها التى تعودنا عليها، دون تجاهل الجمهور تمامًا. 

وجدنا دراما شعبية، ودراما صعيدية، لكنها تدور فى سياق المجتمع الذى يبنى ويعمر ويواجه الإرهاب ويسعى إلى مستقبل أفضل للجميع. 

لم يكن معنى ذلك أننا أصبحنا نسير فى مسار صحيح مائة فى المائة، فقد كانت هناك زلات هنا وعثرات هناك، مسلسل يفلت ويروج لقيم سلبية، مسلسل آخر يخرج بأفكار تنقض وتهدم الأفكار المؤسسة للجمهورية الجديدة، لكن كل هذا كان مقدروا عليه، من ناحية أننا كنا نستوعب أن هذه المسلسلات مارقة، ومن ناحية ثانية نعرف أن هناك من سيقوم بإصلاح الخطأ. 

إلى جوار الدراما المصرية كانت هناك دراما موازية، يعتقد الناس أنها دراما مصرية، وعذرهم فى ذلك أن عناصر المسلسلات جميعها من المصريين، فمن يكتبون السيناريوهات، ومن يخرجون المشاهد، ومن يؤدودنها نجوم مصريون، ثم إن السوق التى تستهدفها هذه الدراما هى السوق المصرية، والمعلن الذى تلح عليه وتطارده هو المعلن المصرى. 

لم تلتزم الدراما الموازية بشىء مما التزمت به دراما الضرورة. 

بل إننى لا أستبعد أنها كانت تنفذ أجندة محددة، إذ إن هذه الدراما ومنذ سنوات لا ترى فى مصر إلا الحارات الشعبية والبلطجية واللصوص والقتلة وتجار السلاح والمخدرات والآثار، تلح على ترسيخ هذه الصورة، للدرجة التى تعتقد معها أن هذه هى مصر، لا شىء فيها إلا الجريمة، ولا يعيش فيها إلا المجرمون والسفاحون. 

هذا العام تقوم الدراما الموازية بنفس ما قامت به خلال السنوات الماضية، وجرى ما كنت أخشاه. 

كنت كما كان غيرى نستطيع الفصل بين المسارين. 

وكنت كما كان غيرى نعرف أن هناك دراما مصرية تعرض كل عام فى رمضان فهو موسمها الأعظم، وهناك دراما أخرى موازية، مصرية من حيث صناعها، لكنها ليست كذلك من حيث جهة إنتاجها، ولأن جهة الإنتاج هى الحاكمة والمتحكمة، فقد صاغت الدارما لمن تحبه وتهواه وتريده، وترغب فى ترسيخه عن مصر. 

هذا العام حدث خلط كبير. 

عدد كبير ممن يعيبون على الدراما ما تقدمه، يصفون ما يحدث فى الدراما الموازية بغضب، يحتجون عليه ويلعنونه، لكنهم يتهمون الدراما المصرية ومن يقومون عليها بأنها من تفعل ذلك كله، فقد وجهوا إليها سهام الاتهام جميعها. 

أطلقت على هذا الحالة «الحول الدرامى». 

لقطة من مسلسل "قلبي ومفتاحه"

لم أفارق الواقع عندما صغت هذا التوصيف فى الحقيقة، فنحن أمام عملية حول درامى كاملة، وهو حول من شأنه أن يهيل التراب على ما أنجزته الدراما المصرية منذ سنوات، ولا تزال تقوم به عبر تنوع موضوعاتها واهتماماتها، وتجويد إنتاجها من خلال الاستعانة بمخرجين ونجوم شباب، أعادوا ضخ الدماء الطازجة فى شرايين جسد الدراما الذى كان قد تيبس تمامًا. 

لو كان هؤلاء منصفين لوضعوا الجرس فى رقبة من يعملون فى الدراما الموازية، صحيح أنها دراما تتبخر تمامًا، ولا يتذكرها الناس بعد عرضها، لكن أثرها مدمر، فهى تشوه صورة بلد ينهض، وتشوه صورة شعب يحاول أن يعيش وسط صعوبات كثيرة. 

عندما تسترجع ما يحدث فى الدراما الموازية خلال السنوات الماضية، ستعتقد أن مصر مثلًا خلت من البشر العاديين، الذين يعيشون بشكل بسيط، منهم موظفون وأطباء ومهندسون ومحامون وأساتذة جامعة وستات بيوت.. طلاب يجتهدون ليحصلوا على حقهم فى الحياة.. أسرة من طبقة متوسطة تواصل العمل والجهد لتحقق المعجزة فى الحفاظ على قيمها ومبادئها.. أسر فقيرة قدمت أبناءها شهداء ليبقى هذا الوطن قائمًا على قدميه صالبًا طوله. 

غابت مصر الطبيعية عن الدراما الموازية، وظهرت مصرية غريبة ومنفرة لا نعرفها، ولا نأنس إليها، ولا نطمئن لوجودها، مصر مريبة لا نعرف ماذا تريد منا بالضبط، وإن كنا نعرف جيدًا ما الذى يراد منها وبها ولها. 

الأهم من المعرفة بما يقدم عن مصر فى الدراما الموازية، هو الوعى به، وأهم ما فى هذا الوعى ألا يتم الخلط، فيوجه من يختلط عليهم الأمر سهامهم إلى الناحية الخطأ، ويلقون بالاتهامات على من يقومون بعملهم على الوجه الأكمل كلما تيسر لهم ذلك. 

يحتج البعض أحيانًا بأن هذه هى الحارة المصرية، وأن من ينتجون المسلسلات لم يأتوا بشىء من عندهم. 

وحتى لو افترضنا أن ما يقال صحيح- هو ليس دقيقًا بالقدر الكافى- فلماذا يصر أحدهم على أن يمد يديه إلى صندوق الزبالة ليخرج ما فيه ويعرضه على الناس بهذه الطريقة الفجة؟. 

لقد شاهدنا قبل سنوات الفتنة- تلك التى أعقبت يناير ٢٠١١- مسلسلات تدور أحداثها فى الحارات والأحياء الشعبية، رأينا ليالى الحلمية وأرابيسك والمال والبنون والليل وآخره، وغيرها الكثير، وفى هذه الأحياء والحارات كان هناك مجرمون ولصوص، لكن لم تخل الحارة من ناس طبيعيين ومواطنين صالحين وبشر أسوياء. 

ساعتها لم يحتج أحد على تصوير الحارة المصرية بهذه الصورة، ولا تسويقها بهذا الشكل، لكن الاعتراض الآن لأن هناك عملية شيطنة كاملة للحارة، سعيًا إلى شيطنة مصر نفسها، فهؤلاء هم أبناؤها وهذه هى أعمالهم... فهل ما نراه دارما موازية؟. 

يفهم البعض أحيانًا ما أقوله على أنه حجر على الإبداع أو رغبة فى ألا يعمل أحد، وهو كلام سطحى وسخيف، فأنا مع حرية الإبداع بلا حدود، إلا الدقة والصدق والنية التى تصب فى الإبداع، أما إذا كانت هناك أهداف أخرى تستخدم الدراما لتحقيقها، فهنا لا بد أن نتوقف، أعتقد أن الالتفات لحرية الإبداع المطلقة وقتها سيكون لونًا من ألوان الرفاهية. 

لأن الدراما الموازية لو كانت مهتمة بتصوير الحياة فى الحارات والأحياء الشعبية، فهل لا توجد حارات أو أحياء شعبية إلا فى مصر فقط، لماذا لا نجد مسلسلًا يدور فى حارة أو حى فى دولة عربية أخرى؟ أعتقد أن البشر هم أنفسهم فى كل مكان، يتشابه سلوكهم، ولا تخرج مصائرهم عن خريطة معروفة ومحددة سلفًا. 

لكن يبدو أن مصر لها وضع آخر بما تمثله من ثقل حققته بفضل تاريخها وما أنجزته فيه، وبفضل حاضرها وما تعارف من خلاله لتحافظ على ما حققته رغم التحديات والمؤامرات التى لا تتوقف. 

أعترف أن ما نملكه لا يملكه الآخرون. 

الحياة المصرية هى الأكثر ثراء. 

لدينا ما يريد أن يعرفه الناس، راجعوا ما ينشر عن مصر فى الإعلام العربى تقليدى وحديث، وتصفحوا إعلامنا وما يمكن أن ينشره عن الحياة فى الدول العربية، أعتقد أن المقارنة ستكون ظالمة. 

من مسلسل “أولاد الشمس"

مصر فى كل حالاتها ملهمة، ثم إن منها من يبدعون، ولا يمكن الاستغناء عنهم، لكن المشكلة التى نعانى منها، والتى لا بد أن نتوقف عندها طويلًا، هى مشكلة رأس المال الذى يبدو أن له أجندته الخاصة. 

بالمناسبة من حق رأس المال هذا، أو أى رأسمال آخر من أى جهة أن تكون له أجندته، وأن يعمل على تحقيق الأهداف التى يرى أنها فى صالحه، لكن من حقنا أن نعترض ونرفض ونعارض ونفضح إذا كان تحقيق هذه الأهداف يأتى على حساب مصالحنا، علينا أن نبذل جهدنا كله لمواجهة ذلك، حتى لو كانت الوسيلة الوحيدة هى المنع... وأعتقد أن هناك جهات قادرة على ذلك بصلاحيات القانون الذى تعمل به، لكنها لا تقوم بدورها على الوجه الأكمل. 

أعرف أن كثيرين يبتعدون عن هذه المنطقة الساخنة الملتهبة.

فليس عندى مانع أبدًا أن يبنى الآخرون مجدهم. 

لكن ما لا أقبله ولا يقبله أى مصرى أن يبنى الآخرون مجدهم على أطلال مجدنا. 

وما يزعجنى أنهم يسارعون فى تحطيم كل شىء حتى يقفوا على المسرح بمفردهم، ثم تجد من يلومنا على ذلك، ويقلل من شأننا، بل ويعيب فينا. 

قد تعتقد أننى أكتب بالإشارات ولا أشير بصراحة إلى ما أريد، لكن أعتقد أنه يكفينا أننا جميعًا على علم بما يحدث، ليس من الآن، ولكن من سنوات عديدة مضت. 

وقد تتعجب عندما أربط ما جرى بالنكسة الكبرى التى أعقبت أحداث ٢٥ يناير ٢٠١١، لكن هذه هى الحقيقة المرة التى يجب أن يواجهها الجميع، لقد هانت علينا أنفسنا، فتكالب علينا من كل صوب وحدب من يطمعون فى وراثة هذا البلد. 

نحن من فرطنا.

نحن من قدمنا أنفسنا لقمة سائغة للآخرين.

وبدلًا من أن نصمت.. نجلد أنفسنا. 

إننا نقدر إذا أردنا.. لكن يبدو أن هناك من يريد لنا أن نستسلم.. لا نقاوم.. نقر لأصحاب الأمر الواقع بما وصلوا إليه وحققوه... وهو ما لن يحدث أبدًا، فقد تمرض مصر لكنها لا تموت، هذه حكمة الزمن وحكمه.. وإذا لم يقتنع أحد فعلى الجميع أن يقرأوا تاريخ المصريين.. وأن يعرفوا حقيقة هذا الشعب الذى تندروا عليه وقالوا إنه «شعب ملوش كتالوج»، تندرهم فى الحقيقة، ففى اللحظة التى يعتقدون فيها أننا استسلمنا نقف مرفوعى القامة لنسترد الاسم والعناوين كما قال عبدالرحمن الأبنودى.

والأيام دائمًا هى التى تثبت ذلك.