آسين شلهوب: مجتمعاتنا تصطاد «المغردين خارج السرب» برصاص العادات والتقاليد

- المختلف ممنوع ومنبوذ.. والمنع من التفكير المغاير مستمر
- «كالييا» تنتصر للشخصيات غير القادرة على فعل ما تشاء دون مساءلة
- تقبل العديد من النُقاد العرب جرأة «كالييا» مفاجأة جميلة ومُشجِعة
- كتاباتى موجهة للأجيال المقبلة التى ستكون أكثر تقبلًا لجميع المواضيع
قد يشعر الكاتب فى الاغتراب بالعزلة والانفصال عن مجتمعه، ما يؤثر على حالته النفسية والإبداعية، فيركز فى كتاباته- مثلًا- على الماضى وتجاربه، بسبب الحنين الذى يعتريه تجاه وطنه الأم، ويقلل من اهتمامه بالقضايا المعاصرة فى المقابل.
الرؤية السابقة تحملها وتتحدث عنها الكاتبة اللبنانية آسين شلهوب، التى تكتب الرواية منذ خمسة عشر عامًا، وتقيم فى مدينة تورنتو الكندية، وتعمل فى التدريس هناك، بعد حصولها على دبلوم فى علم النفس من الجامعة اللبنانية.
وتتميز «آسين» بأنها كاتبة إشكالية، عبر اقتحامها عوالم غير مطروقة بكثرة فى الآداب العربية، مثل «المثلية الجنسية»، والتى يختلف استقبال المجتمعات والثقافات العربية لها بصورة واضحة.
صدرت روايتها الأولى «كالييا» فى كندا، عام 2022، ثم تُرجمت إلى الإنجليزية، فى 2024، قبل أن تصدر مرة أخرى فى بيروت، عن دار «مرفأ للنشر»، خلال العام الجارى، والذى شهد أيضًا إصدار روايتها الثانية «على قصاصة ورق»، عن دار «النهضة العربية» فى بيروت.
نشرت عدة صحف ومجلات ومواقع إلكترونية، سواء عربية أو أمريكية أو أوروبية، الكثير من أشعار ومقالات الكاتبة اللبنانية، التى شاركت فى ورش للكتابة الإبداعية، ودورات لتطوير اللغة وقواعدها فى الكتابة.
كما شاركت فى عدة حلقات «بودكاست» عن المرأة فى الرواية العربية، وكيفية تطوير دورها فى مجتمعاتنا الناطقة باللغة العربية، وكذلك فى عدة معارض للكتاب العربى فى كندا، علاوة على محاورة العديد من الكُتّاب والكاتبات العرب حول كتبهم وإنجازاتهم هناك.
عن هذه التجربة اللافتة، وكيف ترى الاغتراب وتأثيره فى الأدب بصفة عامة وكتاباتها على وجه التحديد، وغيرها من التفاصيل الأخرى، يدور حوار «حرف» التالى مع الكاتبة اللبنانية آسين شلهوب... فماذا قالت؟

■ بداية.. هل البعد واختيار منفى ما يقلل من العصف بحرية المبدع؟
- قد يشعر الكاتب فى الاغتراب بالعزلة والانفصال عن مجتمعه، ما يؤثر على حالته النفسية والإبداعية. فربما يركز فى كتاباته على الماضى وتجاربه بسبب الحنين الذى يعتريه تجاه وطنه الأم، وذلك يقلل من اهتمامه بالقضايا المعاصرة.
هناك العديد من العوامل التى تلعب دورًا فى تحديد كيفية تأثير الاغتراب على الكاتب أو الكاتبة، بما فى ذلك الظروف الاجتماعية والسياسية، والتحديات اللغوية والثقافية، والتجارب الشخصية.
بالنسبة لى أعطانى العيش فى بيئة مختلفة، والاختلاط بثقافات متعددة، مساحة واسعة من الخيارات والمواضيع التى أستطيع التطرق لها من وجهة نظر جديدة، فأنا فى حياتى اليومية التقى العديد من الناس الذين ينتمون إلى ثقافات متعددة، ما يجعلنى أجتهد لأتفهم طريقتهم وأسلوبهم فى معايشة جميع جوانب الحياة، وهذا يعطينى القدرة على مقاربة العديد من المواضيع الاجتماعية والثقافية، التى بإمكانها أن تثرى كتاباتى وتجعلها أكثر عمقًا وتنوعًا.
وهناك العديد من الكُتّاب العرب البارزين، مثل أمين معلوف وحنان الشيخ، كتبوا أعمالًا أدبية مهمة خلال فترة اغترابهم، مستخدمين تجاربهم كلاجئين ومنفيين لإثراء كتاباتهم.

■ ما دوافعك لكتابة رواية «كالييا»؟
- أعيش منذ زمن طويل هاجس الظلم المُهيمِن على مجتمعاتنا، فالتفرد ممنوع، والمختلف منبوذ، ومن تجرأ على التغريد خارج السرب يصطادونه برصاص العادات والتقاليد، فيمنعوننا من التفكير المغاير لما هو مطلوب منا.
الرواية هى عبارة عن كشف لزوايا من المجتمع الظالم، الذى تتخبط فيه شخصيات تعيش فى بيئة عادية لا تمتلك إمكانيات مادية أو نفوذ يمكّنها من فعل ما تشاء دون مساءلة أو محاسبة، كما هو الحال ضمن بعض فئات المجتمع.
■ هل كان للتناقض السلوكى من قبل الشخصية العربية أو اللبنانية دور فى تشييد العالم السردى لهذه الرواية؟
- التناقض هو الكلمة المناسبة لما يختبره الإنسان فى مجتمعاتنا، حيث يتوق الفرد للحرية لكنه يخاف نتائجها. الإنسان فى مجتمعاتنا، وكما يقول الدكتور مصطفى حجازى فى كتابه «التخلف الاجتماعى»، يعيش القمع والذل والمهانة، فيولد هذا لديه العدوانية والكراهية، تلك التى يترجمها بالانغلاق وعدم تقبل من لا يشبهه، لكنه فى الوقت عينه يتألم من الواقع الذى يعيشه ويتمنى تغييره.
التناقض السلوكى للشخصية العربية يعكس صراع القيم والمعايير فى المجتمع العربى، والتحديات التى تواجه الأفراد فى التوفيق بين الأصالة والمعاصرة. ورواية «كالييا» تسلط الضوء بشكل كبير على خلفية كل شخصية، وصراعها المتواصل بين ما تتمنى أن تعيشه وما تعيشه فى الواقع. حاولت إبراز تلك التناقضات فى سلوك شخصيات الرواية، وإظهار دوافعها العميقة، والصراعات الداخلية التى تواجهها، إلى جانب التحديات التى تؤثر على قراراتها.

■ انطلاقًا من كتاباتك.. كيف ترين ردود الأفعال النقدية العربية أو اللبنانية؟
- لقد فوجئت بمدى تقبل العديد من النُقاد العرب محتوى الرواية، وكانت مفاجأة جميلة ومشجعة. بالطبع كان للبعض رأيًا مغايرًا، رافضًا للأسلوب الجرىء الذى اعتمدته، بعد أن تماديت فى خرق المحظور والمسكوت عنه والتعبير عنه علانية.
أحب أن أذكر بأن كتاباتى ليست رهينة وقتنا الحاضر، بل موجهة للأجيال المقبلة، التى ستشهد مزيدًا من التطور للثورة التكنولوجية القائمة، وستكون أكثر تقبلًا لجميع المواضيع. كما أنها ستكون أكثر انفتاحًا على العالم المتوجه بسرعة قياسية نحو مستقبل لا يُشبه ما نعيشه اليوم. حينها ستكون روايتى عبارة عن شهادة لحقبة زمنية محددة.
■ هل كان هناك رمز فكرى أو ثقافى- روائى أو فنى- فى اختيارك لمسار الفن والآداب؟
- لا أعرف إذا كنت أنا من اختار الكتابة أو هى من اختارتنى، فالكتابة كانت المتنفس الوحيد أيام الحرب المريرة فى لبنان، وهى أيضًا الملاذ الوحيد فى سنوات الغربة القاسية. ما أكتبه هو وسيلة تواصل، أنقل عبرها أفكارى وقناعاتى واحتجاجاتى على ما يجب تغييره فى محيطنا لتعيش شعوبنا حياة أفضل تليق بها وبإنسانيتها.

■ هل ينتهى حلم الكاتب بالخلاص مع الانتهاء من كتابة نصه، أم أن هناك مفهومًا آخر للخلاص؟
- الحلم لا ينتهى، وفى كل مرة أنجز فيها كتابة نص أجدنى متشوقة للمزيد. الكتابة عبارة عن عالم شاسع ننهل منه ولا نرتوى. تسلب الكتابة حواسنا وأفكارنا وتأسرنا فى جوفها فنستسلم لها طواعية، حتى نتمكن من تجسيد ما يؤرقنا ويضنينا.
أمنية الكاتب لمس القلوب والعقول بالكلمات، وهو يظل يبحث عن الأسلوب المناسب ليعكس قصصًا محملة بهمومه وشجونه، بقلق الوجود أو بعقد دفينة يصارعها، فكل كاتب له هدف معين ينشد بلوغه دون أن يكتفى به.
■ هل لكِ أن تحدثينا عن المشهد الروائى والفكرى فى كندا؟
- المشهد الروائى والفكرى فى كندا يشهد حراكًا متنوعًا، يعكس طبيعة المجتمع الكندى المتعدد الثقافات واللغات. يمكن تحديد بعض الملامح البارزة لهذا المشهد بالتكلم عن الأدب الكندى الزاخر بأصوات متنوعة تمثل مختلف الخلفيات الثقافية والإثنية، مثل الأدباء المنحدرين من أصول آسيوية وإفريقية ولاتينية، أو من السكان الأصليين. كما أن كندا تحتضن لغتين رسميتين، الإنجليزية والفرنسية، ما يعنى وجود أدب مزدهر بكلتا اللغتين.
وتحتل قضايا التعددية الثقافية والاندماج مكانة مهمة فى الخطاب الأدبى والفكرى، إلى جانب قضايا أخرى متداولة مثل الهوية الكندية، ومعنى أن تكون كنديًا، فضلًا عن قضايا البيئة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. من الأدباء الذين أثروا المشهد الأدبى والثقافى بأعمالهم: مارجريت أتوود ومايكل أونداتجى وآدن روبنسون ودنيس مونيت.
وتلعب دور النشر والمجلات الأدبية دورًا حيويًا فى دعم الأدباء الكنديين ونشر أعمالهم. وتسهم الجوائز الأدبية فى تكريم وتقدير الأدباء المتميزين، وتشجيع الإبداع الأدبى. هذا غيض من فيض المشهد الروائى والفكرى فى كندا، الذى يشهد تطورًا مستمرًا، ويسهم فى إثراء الثقافة الكندية والعالمية.

■ وماذا عن المشهد الثقافى الإبداعى العربى.. المصرى واللبنانى تحديدًا؟
- بشكل عام، يشهد المشهد الثقافى العربى حراكًا إبداعيًا نشطًا فى مسارى الرواية والقصة، مع ظهور أصوات جديدة، وتنوع فى الأساليب والموضوعات. تواجه بعض الأعمال تحديات رقابية، ما يحد من حرية التعبير. لذا أتمنى أن يحظى كل مبدع بدعم واهتمام أكبر من دور النشر والجمهور، من خلال القراءة والمشاركة فى الفعاليات الثقافية، ليتمكن من المساهمة فى تطوير وازدهار الأدب العربى.
بإمكاننا القول إن المشهد الثقافى العربى يمر بمرحلة انتقالية، إذ يواجه بعض التحديات، لكنه يحمل أيضًا الكثير من الإمكانات. هناك جيل جديد مثقف ومبدع يعمل على تطوير المشهد الثقافى، كما أن هناك العديد من المبادرات التى تهدف إلى دعم وتعزيز الثقافة العربية.

■ عما تدور روايتك الأحدث «على قصاصة ورق»؟
- «على قصاصة ورق» قصة امرأة تُدعى «جانين»، تستيقظ صباح أحد الأيام لتجد نفسها وحيدة فى البلد الذى هاجرت إليه مع زوجها، فتبدأ رحلة طويلة من التخبط والضياع، تَعبر خلالها مراحل عديدة من التجارب واللقاءات التى تحولها إلى إنسانة مختلفة.
تضطر «جانين» لشراء منزل جديد برفقة وكيل عقارات يُشكل لها طوق نجاة تطفو بواسطته على سطح الصدمة التى تلقتها، ثم تلتقى برجل آخر وتقرر بأنه سيحقق حلمها بالأمومة. تعيش أسلوب حياة مغاير عن الذى اعتادته، حتى يحين وقت العودة إلى النقطة التى انطلقت منها.
تتناول الرواية موضوعًا شغلنى لوقت طويل يتمحور حول سؤال: هل الظروف هى من تملى علينا مشاعرنا أم أن مشاعرنا ثابتة لا تتأثر بتغيير الظروف، من خلال أحداث تتنقل بين كندا ولبنان، فى ربط وثيق لبلدين أحملهما فى وجدانى، وتتحرك شخصيات الرواية ضمن إطارهما.

■ أخيرًا هل تعتقدين أن للترجمة دورًا فى انتشار الكاتب؟
- لقد تُرجمت روايتى الأولى «كالييا» إلى الإنجليزية. أعتقد أن الترجمة مهمة جدًا، لأنها تلعب دورًا حيويًا فى انتشار الكاتب وتوسيع قاعدة قرائه. تمكنه من الوصول إلى جمهور أوسع، والمشاركة فى المحافل الأدبية والعالمية، والتأثير ثقافيًا، والتواصل مع القراء من مختلف أنحاء العالم. وعلى الرغم من وجود بعض التحديات، تبقى الترجمة أداة قوية لنشر الأدب العربى، وتعريف العالم بثقافتنا الغنية والمتنوعة.