الخميس 12 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

قاضٍ فى صعيد مصر

حرف

معظم الناس لا يعرفون إلا قليلًا عن عالم القضاء، والقوانين التى تطبق من خلاله، وعندما تقع المشاكل، يسارع الجميع إلى المحامين باعتبارهم أهل اختصاص فيما لا يفهمون فيه، والمدارس والمؤسسات التعليمية لا تضع دراسة القانون ضمن برامجها الدراسية، والثقافة القانونية عمومًا غائبة عن الأذهان تمامًا، وهواة القراءة يقرأون الكتب الأدبية، أو التاريخية، وتلك ذات الطابع العلمى، لكن لا أظن أن أحدًا لديه الشغف لقراءة كتاب فى القانون.

ومن هنا، ربما تأتى طرافة ومتعة قراءة كتاب مثل كتاب قاضٍ فى صعيد مصر للمستشار الدكتور محمد عماد النجار، فهذا الكتاب يدور فى عالم القضاء والقانون، فى إطار سردى ينحو نحو البنية الروائية دون أن يكون رواية بالمعنى المتعارف عليه، وهو يدخل القارئ إلى عالم القانون المترامى من خلال تجربة قاضٍ متخصص فى الجرائم الجنائية، يذهب ليكون عضو هيئة محكمة بإحدى محافظات صعيد مصر، ومن خلال لحظة وصوله إلى محطة القطار بهذه المحافظة، وحتى نهاية الكتاب، فإن العلاقات الإنسانية والمواضعات الاجتماعية، تتشابك مع القانون الوضعى لتنتج عددًا كبيرًا من الأسئلة يمكن طرحها ضمن ما هو نفسى، وسوسيولوجى وأنثروبولوجى أيضًا.

ولعل السؤال المركزى الذى يتمحور حوله الكتاب هو: كيف يطبق رجل القضاء القانون ومواده الحاكمة فى عالم الصعيد، الذى له قوانينه وأعرافه وتقاليده وعاداته المستمدة من تراثه الممتد عبر مئات وربما آلاف السنين، وكيف يوفق القاضى بين كل ذلك وبين حزمة القوانين التى يجب أن يطبقها وهى قوانين منبثقة وقائمة على أساس من دستور الدولة؟.

إن القاضى مهما كان حصيفًا، ومُجدًا ومتشربًا بروح القانون، لابد وأن يصطدم بكل هذه التركة المتعلقة بعالم الصعيد، وهذا ما تم بالفعل مع ذلك القاضى القادم لأول مرة من الشمال، فهو ومن لحظة أداء دوره الوظيفى، يظل فى حالة من الصراع الفكرى والنفسى مع زميله القاضى الآخر ابن الصعيد وعضو هيئة المحكمة، والذى يحرص دومًا على إيجاد حلول توفيقية بين القانون الذى يجب أن يُطبق، وتلك القوانين الخاصة بتلك المنطقة الجنوبية، التى طالما كانت بعيدة عن مركزية الدولة، وطالما طالها التهميش منذ مئات السنين.

يطرح الكتاب من خلال تجربة ذلك القاضى القادم من العاصمة، جريمة الأخذ بالثأر، كجريمة جنائية مركزية، تتصدر كل الجرائم بالصعيد، تليها جريمة أخرى ملازمة لها بالضرورة وهى جريمة حمل السلاح دون ترخيص من السلطات المختصة، بينما تتراجع أنواع أخرى من الجرائم الجنائية، وقلما توجد بالصعيد، ومن هنا فإن الكتاب ينفتح على جملة من الأسئلة المتعلقة بهذه الجرائم، من حيث التكوين المجتمعى وتشكله بالصعيد ووجود القبائل العربية واستقرارها بعد دخول العرب مصر، إضافة إلى الطبيعة الجغرافية الخاصة بالبيئة الطبيعية حيث تمتد الجبال والصحارى حول القرى والنجوع المعزولة، ما يساعد على ازدهار جريمة الثأر، حيث يسهل الهروب والتخفى والانزواء بعيدًا عن السلطات.

والممتع فى الكتاب، تلك العلاقة التى نشأت بين القاضى القادم من القاهرة، والقاضى ابن الصعيد، وهى علاقة توطدت إنسانيًا بينهما بسبب المحاورات والجدل المستمر حول الأحكام التى يتوجب إصدارها على الجناة من حملة السلاح، أو تلك الذين ارتكبوا جرائم ثأر، فالنص القانونى رغم وجاهته وموضوعيته، إلا أنه قد يكون سببًا فى شقاء إنسانى لا حدود له، مثلما هو الحال فى تلك الجريمة التى تعطى الزوجة سكينًا لزوجها ليقتل شقيقه أثناء شجار نشب بينهما، فالقاضى ابن الصعيد يرفض حبس الزوجة، رغم أنها شريكة فى الجريمة، حتى تعود إلى حياتها الأسرية وتتفرغ لتربية أبنائها الذين سوف يقعون فريسة لزوجة الأخ المقتول فى حالة سجن الأب والأم، أو إعدام الأب، حيث كان الجميع يعيشون فى بيت واحد، وعلى امتداد صفحات الكتاب يتم طرح قضايا أخرى عديدة، يدور الجدل حولها بين القاضيين، وتبدو مواد القانون غير كافية للبت فيها، إذا ما روعيت السياقات الاجتماعية والإنسانية التى جاءت فيها مثل هذه الجرائم.

وربما تأتى متعة القراءة لهذا الكتاب، من كونه إطلاله واسعة على عالم الصعيد الخفى من منظور تجربة إنسانية بالأساس لعمل قاضٍ لم يكن يعرف الكثير عن هذا العالم، ولكن عندما انتهى عمله وغادر الصعيد، ظل رأسه محملًا بعشرات الأسئلة عن الدولة ودورها عبر التاريخ فى ذلك الجنوب البعيد عن المركز، وكذلك عن التركيبة السكانية التى تشكلت فيه، ومدى مساهمتها فى تجذر جرائم الثأر، ثم هل الثأر عادة عربية الأصل لم يعرفها المصريون من قبل؟ لكن علينا أن نتذكر هنا أن أول أخذ بالثأر عرفه التاريخ، كان فى مصر القديمة، حيث قام حورس بالانتقام لأبيه المغدور أوزوريس من عمه القاتل المدعو ست.

وبعد قراءة هذا الكتاب، تتصاعد لدى قارئه أسئلة مثل: هل لدينا دراسة متخصصة على أساس علمى تتعلق بالتكلفة المادية لجرائم الثأر وأثرها على الاقتصاد القومى؟ ثم لماذا لا يبادر قضاة آخرون بكتابة تجاربهم فى عالم القضاء، حيث تكون هناك مادة خصبة متنوعة تزيد الفهم للمجتمع المصرى وما يدور فيه؟.