القفز على الواقع.. لماذا يرفض المصريون ما يخطط له المتأسلمون؟
- لقد كانت الجماعة الإرهابية وراء كثير مما عانينا منه خلال السنوات الماضية
- يحلم الكثيرون الآن من أبناء جماعة الإخوان بأنهم يمكن أن ينظموا صفوفهم من جديد
فى اللحظة التى تم فيها إعلان سقوط بشار الأسد ودخول الميليشيات المسلحة دمشق، بدأ أبناء التيارات المتأسلمة، وعلى رأسهم جماعة الإخوان الإرهابية فى نسج الحلم الكبير بالعودة مرة أخرى ليس إلى مصر فقط، ولكن إلى حكمها.
أحدهم كتب على صفحته: كما دخلوا دمشق فاتحين.. سنعود إلى مصر منتصرين.
المشهد السورى كما يتم رسمه بعناية إعلامية احترافية يغرى هؤلاء الحالمين بأن ما جرى هناك يمكن أن يتكرر هنا، بل يمكن أن يتكرر فى الشرق الأوسط كله.
حتى الآن لا يمكننا التعامل مع ما يحدث فى سوريا على أنه النهاية.
إنه مجرد البداية.
لا يمكننى التشكيك فى نوايا أحد، ولا هدم المعبد على رءوس الجميع، فسوريا الآن على المحك، ولا أحد يعرف هل تأتى تصريحات حاكمها الفعلى أحمد حسين الشرع للاستهلاك المحلى والعالمى وتمهيد الأرض لما يريده ويخطط له، أم أنها تعبر عن قناعاته، فهو يريد- كما أعلن- أن يبنى سوريا من جديد، دون أن يقول لنا عن أى سوريا يتحدث؟
كل ما نملكه تجاه ما يحدث هناك، هو أن ننتظر فقط ما ستسفر عنه الأحداث.
لكن ما يشغلنى هو: ما الذى يفكر فيه البعض فيما يمكن أن يحدث هنا فى المستقبل الذى يريدونه قريبًا.
عبر حسابات عديدة على شبكة التواصل الاجتماعى، رصدت حالة من الحفاوة لدى عدد من المثقفين المصريين بما جرى فى سوريا، تأسيسًا على أنه كان موجهًا لحاكم ديكتاتور.
لقد نظروا إلى ما حدث على أنه عملية تحرير وتحرر، والمثقفون دائمًا مع حركات التحرر والتحرير.
لكن عندما زالت زهوة الأحداث وبدأنا ندخل فى التفاصيل، رأيت من احتفوا واحتفلوا بدخول أحمد الجولانى سابقًا أحمد الشرع حاليًا يعودون على أعقابهم مرة أخرى، ويبدون تخوفاتهم المنطقية مما يمكن أن تتعرض له سوريا، فقد بدأ الجميع يعانون قلقًا مشروعًا، فليس مهمًا أن تزيح حكمًا ديكتاتوريًا فقط، ولكن المهم بأى نظام ستأتى.
لن أتوقف عند موقف جماعة الإخوان الرسمى من الأحداث، لأننا لسنا أمام موقف واحد، فالجماعة نفسها ليست واحدة، ضربتها الانقسامات والانشقاقات والتحزبات.
فهذا صلاح عبدالحق يعبر عن موقف الجماعة من لندن.
وهذا محمود حسين يعبر عن موقفها من تركيا.
وهذه جبهة التغيير أتباع الإرهابى محمد كمال- الكماليون- تحدد موقفها باعتباره الموقف الإخوانى الثورى، لا فيما يتعلق بسوريا فقط، ولكن فيما يتعلق بمصر أيضًا.
ولكننى سأتوقف قليلًا عند السؤال المهم الذى طرح بالفعل فى أوساط سياسية وثقافية وفى جلسات العامة هنا وهو: هل ما حدث فى سوريا يمكن أن يحدث فى مصر؟
لن أعتمد على ملامح الصورة العامة التى تقول بكل تأكيد إن مصر ليست سوريا.
ولكننى سأقف معكم وبكم عند التفاصيل، وهى تفاصيل تتعلق بما أصبح راسخًا فى العقل المصرى فيما يتعلق بوضعية الإسلاميين فى الوجدان الشعبى، وهى الوضعية التى تشكلت وتراكمت بفعل التجربة الحية التى جمعت المصريين بجماعة الإخوان المسلمين فى الحكم خلال الفترة من ٣٠ يونيو ٢٠١٢ حتى ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وما سبقتها من أحداث بدأت مع انفجار أحداث يناير ٢٠١١.
يراهن كثيرون على أن ذاكرة الشعوب ضعيفة، وكذلك ذاكرة المصريين، وأنهم بمجرد أن يروا ما حدث فى سوريا، فإنهم يمكن أن يميلوا مرة أخرى للإخوان وأتباعهم، وعلى الفور سيقومون بفتح أبواب المدينة أمامهم مرة أخرى.
لا يعرف كثيرون أن العلاقة بين الشعب المصرى وجماعات الإسلام السياسى أصبحت معقدة ومتشابكة.. لم تعد بالبساطة التى كانت عليها فيما قبل.
لعقود طويلة كان الحاكم بين الشعب المصرى والمتأسلمين، هو قناعة تامة بأنهم «ناس بتوع ربنا»، وكانت هذه نقطة ضعف كبيرة فى الشخصية المصرية، فنحن نقف عاجزين أمام من يدعون بأنهم حزب قال الله وقال الرسول، وتأسيسًا على ذلك كان يعتقد كثيرون أن هؤلاء يجب أن يحصلوا على فرصة.
فكل ما هو بعيد يظل لامعًا وبراقًا.
وما لم نجربه يظل يحمل قيمة فى حد ذاته.
توالت الأحداث، ولم يمنح أحد الإخوان الفرصة لحكم مصر، بل حصلوا على الفرصة بالحيلة والخداع والأكاذيب، وعندما أصبحوا وجهًا لوجه معنا على رقعة الميئولية السياسية والاقتصادية لم نر منهم خيرًا، رغم أنهم وكنوع من التدليس رفعوا شعار «نحمل الخير لمصر»، بعد أن تخلوا عن شعارهم الذى رفعوه طويلًا، وهو «الإسلام هو الحل».
لن أحدثكم عن الوهم الكبير الذى وجدناه.
فقد ظلت الجماعة تروج لنا أنها تملك من الكفاءات ما يجعلها قادرة على إدارة الحكم فى البلاد، وأن الأنظمة السابقة حجبت هذه الكفاءات وحرمتها من العمل من أجل مصر، وعندما وصلوا الحكم ودانت لهم الدنيا، كما أرادوا، لم نر من بينهم كفاءة واحدة لا فى السياسة ولا فى غيرها، ما جعل مؤسسات الدولة تنهار بين أيديهم من اليوم الأول لتوليهم الحكم.
ولكن لماذا لا نتحدث عن موقف الإخوان من الشعب المصرى نفسه؟
فقد بدا من اللحظة الأولى أن الجماعة تتعامل مع من لا ينتمون إلى صفوفها على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية.
فأنت إخوانى.. معنى ذلك أن لك كل الحقوق، بل من حقك أن تحصل على كل الامتيازات التى لا تستحقها حتى التى لا تستحقها.
وأنت مصرى.. فمعنى ذلك أنه لا حق لك إلا ما تجود به جماعة الإخوان عليك.
وهو ما دفع عددًا كبيرًا من المصريين المسلمين والمسيحيين على السواء للتفكير فى الهجرة ومغادرة البلاد حتى يكتب الله النجاة لمصر وأهلها، فقد شعرنا جميعًا بأن هذه الأرض ضاقت بنا وأظلمت من حولنا.
لقد دخلت الجماعة فى صدام واضح مع كل مؤسسات وفئات وطبقات المجتمع المصرى، ولم يكن ذلك لإحكام السيطرة فقط، ولكن تطبيقًا لقناعة راسخة لدى أعضاء الجماعة، وهى أنهم الأعلون، وليس من حق أحد أن تكون له كلمة فى البلاد إلا الجماعة ومن ينتمون إليها.
ما كان خطيرًا هو عمل الجماعة بدأب وحماس شديدين لتغيير هوية مصر وطمس ملامحها الحضارية وسحق الشخصية المصرية بما تميزت به عبر القرون الممتدة، فقد اعتقدت الجماعة أنها جاءت لتبنى مصر من جديد، ولا يمكن أن ننسى أن هناك من بين عناصر الجماعة من اعتبر أن حكم الإخوان لمصر هو فتح جديد لها، بل اعتبروا أن الإسلام يدخل من جديد إلى مصر.
لا أقول ذلك على سبيل التحليل، أو التحميل للأمور بأكثر مما ينبغى.
فإذا رجعنا إلى المؤتمر الأول الذى أعلن فيه محمد مرسى عن ترشحه للرئاسة، ودعونا نتذكر معًا، عندما وقف فى مسجد عمرو عبدالعاص ليعلن عن العهد الجديد، ولم يكن اختيار مسجد عمرو مصادفة، فقد كان إشارة لفاتح مصر الأول، وتأكيد على أن مرسى سيكون فاتح مصر الثانى.
لقد أدت ممارسات الإخوان إلى أن تقف مصر على حافة الحرب الأهلية، ولا يمكن أن ننسى المشهد العبثى الذى رأيناه جميعًا فى الصالة المغطاة باستاد القاهرة، وكان للمصادفة تجمع لنصرة سوريا فى منتصف مايو ٢٠١٣.
فى هذا المشهد رأينا محمد مرسى يجلس ومن حوله أتباعه وحلفاؤه الذين يسيرون على طريقه بضلال إلى يوم الدين، وإذا بواحد منهم وهو السلفى الإرهابى محمد عبدالمقصود يقف ليتوجه إلى الله بالدعاء على الشعب المصرى بالهلاك والانتقام، وفى خشوع يؤمن الرئيس الذى هو مفروض أنه رئيس للمصريين على الدعاء، ليكون بذلك أول رئيس يتمنى لشعبه الهلاك.
لكن من قال إننا كنا شعبه، أو أنه كان رئيسنا؟
يحلم الكثيرون الآن من أبناء جماعة الإخوان، بأنهم يمكن أن ينظموا صفوفهم من جديد، وأن يعملوا مرة أخرى على استعادة ما فقدوه، وأن تطيب لهم الدنيا مرة أخرى، فيدخلون من أبوابنا ليجدوا ترحيبًا وتهليلًا، دون أن يعرفوا أن الأمور هنا ليست كالأمور هناك تمامًا.
ما يفعله الإخوان إعلامًا وتفكيرًا وتنظيمًا على الأرض ودعوات للفوضى ترجمته الوحيدة بالنسبة لى أنه قفز على الواقع.
الواقع الذى يتنكرون له، ولا يريدون أن يعترفوا به، بل عملوا لسنوات طويلة على تشويهه والإساءة إليه، اعتقادًا منهم أنهم يمكن أن ينتصروا فى النهاية على الجميع.
لقد خطت مصر خطوات بعيدة جدًا فى اتجاه الدولة المكتملة، بعد أن قام المتأسلمون بتهشيمها وتحطميها، ولا يمكن لجماعات متطرفة أن تنتصر على الدولة، إنهم لا يدركون حقيقة أن سوريا سقطت فى أيدى الميليشيات لأنه لم تكن هناك دولة من الأساس، ولذلك كان سهلًا أن تتهاوى فى ١١ يومًا فقط، هذا بالطبع إذا استبعدنا الدعم الخارجى اللا محدود لمن تحركوا فى اتجاه دمشق.
ما رأيكم أن نضع واقع الدولة وما أصبحت عليه جانبًا.
فهناك ما هو أكثر ولا ينتبه له المتأسلمون، بما يجعلهم يعتقدون أن القفز عليه أمر يسير.
لعقود طويلة كانت جماعة الإخوان الإرهابية تحظى بكثير من الدعم والمساندة والتعاطف بسبب مطاردة النظام لها، كان المصريون فى أغلبهم يتعاملون على أن هناك صراعًا بين الجماعة والنظام على الحكم، وأن ما يلاقيه الإخوان على يد النظام لا ينبغى ولا يجوز، وهو شعور كان نتيجة لحالة الخداع التى كان يعيشها المصريون فى علاقتهم بالإخوان.
لكن بعد ٣٠ يونيو أصبح هناك واقع جديد، فالصراع لم يعد بين الجماعة والنظام، بل أصبح بينها وبين الشعب، ولذلك فالجماعة لم تخرج من الحياة السياسية المصرية، ولكنها خرجت من الوجدان الشعبى المصرى، وهو خروج مؤكد أن الجماعة لا تدركه، بل تعتقد حتى الآن أن هناك من بين المصريين من يؤيدهم أو يريدهم أو يركن إليهم أو يتمنى أن يعودوا مرة ثانية ليكونوا جزءًا من المشهد حتى لو بعيدًا عن السلطة.
هذا هو الواقع الحقيقى الذى تقفز عليه الجماعة فى تفكيرها بعد ما حدث فى سوريا، وهو التفكير الذى سيورثها تشردًا وتشريدًا أكثر مما وجدت نفسها فيها بعد أن طردها الشعب المصرى طردة نهائية.
لم يستوعب الإخوان ما جرى بعد ٣٠ يونيو.
كانت الجماعة قد قررت ألا تستسلم، اعتصم عناصرها فى رابعة والنهضة، قاموا بمسيرات فى الشوارع، نظموا مظاهرات حاشدة عبروا بها الشوارع والطرقات، هتفوا وشتموا وسبوا ولعنوا، ولم يكن من يواجههم ويحد من خطرهم رجال الجيش والشرطة فقط، ولكن شارك فى حصارهم الشعب المصرى كله، وأعتقد أن كثيرًا من تحركات الإخوان تم إجهاضها لأن الناس وقفوا فى مواجهتهم وحالوا بينهم وبين أن يمارسوا ما يعرفونه من صنوف التخريب والدمار والفوضى.
الحقيقة التى يجب أن يدركها المتأسلمون جميعًا، ولا أتحدث عن جماعة الإخوان وحدها ولكن عن كل من يفكرون بطريقتهم داخل مصر وخارجها، أن مصر الآن لا تعيش فى العام ٢٠١٣، تجاوزتها كثيرًا، عبرت إلى المستقبل بخطى سريعة وواسعة، ولا يمكن أن تعود العجلة إلى الوراء مرة أخرى، ليس لأن النظام السياسى يعمل على ذلك فقط، ولكن لأن الشعب المصرى هو الذى يعمل ويجتهد حتى لا يفقد ما حققه ودفع ثمنه من أمنه واستقراره وقوت يومه.
لقد كانت الجماعة الإرهابية وراء كثير مما عانينا منه خلال السنوات الماضية، ما قاموا به لإرباك الدولة وإنهاكها جعلنا فى حالة استنزاف كبيرة، ويعرف المصريون ذلك جيدًا، ولذلك فهم لن يأمنوا لمن آذوهم مرة أخرى.
أعرف أن الصورة لا تزال فى مرحلة التشكل، وأن ما كانت تخطط له الدوائر العربية فى المنطقة لم ينته، بل قد تكون هناك حيلة جديدة لتنفيذه، وهى بعيدة على كل حال عما يحدث فى سوريا، وقد يكون لمن يرسمون ملامح السيناريو الجديد يضعون فى حساباتهم أنه لا يمكن أن يكتمل إلا بالوصول إلى القاهرة، قلب مصر وأهلها.
وهنا يكون طرح السؤال فرضًا وواجبًا، فهل سنتركهم يعبثون بنا كما حاولوا أن يعبثوا قبل ذلك؟
أعتقد أننا جميعًا سنقف لحماية هذا الوطن، ليس لأننا نحبه فقط، ولكن لأننا فى الواقع- الذى يحاولون القفز عليه- لا نملك غيره.