رشا الفوال: عندما مُنحت الفرصة للكاتبات أنتجن ثقافة ذكورية!

- «الكتابة النِسوية» ليست مطالبة بالنضال ضد التمييز بل بتأكيد حق الاختلاف
- الفارق بين الرجل والمرأة أيديولوجى وثقافى قبل أن يكون بيولوجيًا
تمثل الكتابة النسوية أحد أكثر الحقول النقدية إثارة للجدل، إذ تتشابك فيها قضايا الهوية والذات والمجتمع، وهو ما ينعكس بوضوح فى أحدث إصدارات الدكتورة رشا الفوال، الشاعرة والناقدة، والذى يحمل عنوان «صورة الرجل فى السرد النسوى»، الصادر عن «بيت الحكمة للثقافة»، وشاركت به فى معرض القاهرة الدولى للكتاب 2025.
فى هذا الكتاب، تتبنى الدكتورة رشا الفوال منهج التحليل النفسى لفهم صورة الرجل كما تقدمها الكاتبات فى السرد المعاصر، محاولةً تفكيك التغيرات النفسية والاجتماعية التى طرأت على الجماعة السيكولوجية فى المجتمعات العربية، وما أفرزته من تناقضات بين الذات الفردية والجماعية.
حول هذا العمل النقدى المتميز، تجرى «حرف» الحوار التالى مع الدكتورة رشا الفوال، لتفتح لنا نافذة على أبرز القضايا التى يتناولها الكتاب، بدءًا من ملامح السرد النسوى وصورة الرجل فيه، مرورًا بضبط المصطلحات الجدلية مثل «النسوية»، وصولًا إلى الاتهامات التى تطارد الكاتبات فى هذا السياق.

■ دعينا نعيد عليك السؤال الذى طرحته بمقدمة كتابك الأحدث «صورة الرجل فى السرد النسوى» كيف صورت المرأة شخصية الرجل من خلال الكتابة الروائية؟
- لا شك أن الروايات التى تعود بالنفع على التفسير النفسى هى الروايات التى لا يُعطى فيها المؤلف تفسيرًا سيكولوجيًا لشخصياته، بل يدع مجالًا للتحليل والتفسير، ربما لأن خصوصية أدب المرأة ليست خصوصية فنية، بل هى خصوصية ناجمة عن وعى الكاتبات بالتحولات المجتمعية وبالتاريخ الشخصى الدال على تجارب كل كاتبة منهن؛ فالمرأة فى الروايات المدروسة فى الكتاب تُعيد إنتاج ثقافة الرجل باعتباره صاحب السيطرة فى المجتمع، حتى عندما أتيحت للكاتبات فرصة إنتاج كتابة مؤثرة أنتجن ثقافة ذكورية لا تسعى للدفاع عن حقوق المرأة فى العمل والتعليم، ثقافة قائمة على مجرد تشويه صورة شخصية الرجل، وتجسيده فى عدة أنماط سلبية. مع ملاحظة إرجاع نقيصة الرجل إلى المرأة فى معظم الشخصيات؛ فنجد على سبيل المثال الكاتبة العمانية، جوخة الحارثى فى روايتها «سيدات القمر» تأتمن الرجُل على أسرار الشخصيات ليصبح المؤلف الضمنى هو الراوى العليم المشارك، وأقرب شخصيات العمل إلى المؤلف الحقيقى والمُكلف بتوصيل رسالته إلى المُتلقى، ونرى كيف اختزلت الكاتبة المصرية عزة رشاد الأنظمة الذكورية فى شخصية رضوان بك البلبيسى فى رواية «شجرة اللبخ»، وإن كانت نجحت فى التخلص من ذلك الاستغلال الذكورى بأسلوب رمزى يتمثل فى مقتله فى صومعة فتاة الليل؛ لذلك انعكس اضطراب صورة شخصية الأب على النظرة السلبية إلى الذات فى شخصية الابن فارس بك.
الكاتبة الليبية نجوى بن شتوان فى روايتها «زرايب العبيد» هدمت صورة شخصية الرجل المنسحب السلبى السيد أمحمد الصغير بأن جعلت مذلته على يد معشوقته تعويضة؛ لتختتم الرواية بكسر الهاجس الذكورى المهووس بقوة الرجل ودونية المرأة؛ فنرى تحول السيد من رجل الفحولة والرغبة إلى المهانة والضعف.

■ إلى أى مدى أثرت ثقافة المجتمع على تبنى المرأة رؤية محددة تعكس شخصية الرجل بأنماطها المتعددة؟
- الروايات الثلاث تُمثل إفساحًا للذات الأنثوية لتجاوز الأنساق الثقافية وإطلاق سراح «الأنا» من خلال خطاب مؤنث، يكشف للمتلقى الكيفية التى يتم التعامل بها مع الدروس المستفادة من الحياة، مع الصدمات العاطفية وأزمات المصير الإنسانى وصياغتها بشكل سردى منحهن الفرصة لرسم شخصيات ذكورية صلصالية تتسم بالتهميش والاغتراب والسلوكيات الانسحابية.
■ كيف تختلف صورة الرجل فى السرد النسوى عن تلك التى يكتبها الكُتاب؟
- الشخصيات الذكورية لعبت وظائف متعددة فى عالم الكاتبات الخيالى/ الواقعى. مع ملاحظة أن فعل الكتابة فى الروايات الثلاث امتاز بقيمته الوجدانية الفائقة وملامسة الانفعالات المكبوتة عند الرجال بوجه عام، ربما يرجع ذلك إلى أن الجانب اللا شعورى من عقول الكاتبات اشتق القوة الدافعة التى استخدمتها شخصيات الرجال وهى الصراع والكبت، واتسعت الروايات لتنويعات متعددة لشخصية الرجل بأنماطها المختلفة، لتنتقل بنا الكتابة النِسوية من معاينة ورصد عالم الآخر إلى معاينة ورصد عالم الذات عبر الصراع معه، تعبيرًا عن الحالات الوجدانية الاجتماعية الواقعية.

■ فى رأيك لماذا تطارد الكاتبات بتهمة النسوية؟
- فى حقيقة الأمر صادف مصطلح النِسوية إشكالية كبرى فى تحديد ماهيته خاصة مع تعدد الاتجاهات فى الشرق والغرب وتباينها وتناقض تصوراتها فيما يخص إبداع المرأة، مسألة التباين هذه وضعت المصطلح دائمًا بين ثنائية «القبول/ الرفض»، مما أدى إلى وجود ثلاثة مواقف نقدية حول الكتابة النِسوية خاصة بعد ظهور عدة صيغ ترادفية؛ فمن النقاد من قال بالنِسوية، ومنهم من وصف إبداعات المرأة بالإبداع الأنثوى، ومنهم من قال بالكتابة النسائية، إلى أن وصل الأمر باعتبار مصطلح الإبداع النِسوى حقلًا واسعًا له دلالاته يشمل الأدب الذى تكتبه النساء والرجال عن المرأة وقضاياها.
■ ألا يعد التصنيف فى أصله- نسوى وغيره- تعسفًا على الإبداع؟
- بعيدًا عن التصنيف؛ فالأمر يتعلق بالحكاية العائلية التى تؤلفها الذات الكاتبة، والأدب النسِوى هو المصطلح الأكثر دلالة على خصوصية إبداع المرأة ووجهات نظرها، ساعدنى فى ذلك اتجاه الدراسات النفسية الحديثة للتركيز على الكتابات الأدبية التى ترصد الفئات الأكثر ضعفًا وتهميشًا من غيرها، والذين يواجهون بشكل أو بآخر آثار القهر والاستعباد، وهو الأمر الذى يُبرز أهمية دراستهم وكشف ما يعانون منه وما هو متجذر فى أبعد مناطق اللا وعى فى أبنيتهم النفسية.

■ لماذا تعتبرين عملية تجنيس الكتابة الأدبية بالأنثوية تقليلًا من قيمتها مقابل ما يكتبه الكُتّاب الرجال؟
- لا شك أن عملية تجنيس الكتابة الأدبية بالنسوية دلالة على التقليل من قيمتها، ربما لذلك أصبحت الكتابة النسائية موضع نزاع، وأصبح مصطلح الكتابة النسوية من المصطلحات النقدية- متعددة الدلالات- التى تسعى لإيجاد مبررات تؤكد خصوصية الخطاب الأدبى الذى تكتبه المرأة.
فالأدب النسائى فى مرآة النقد مرادف لإبداع المرأة، هذا وإن كنا نرى أن المصطلح تم تعميمه؛ لأن الكتابة الأدبية التى تُعبر عن قضايا المرأة موضع نزاع بين رغبة الكاتب/ة فى الكتابة وبين مجتمع يبدى تجاه تلك الرغبة إما سخرية لاذعة أو عدم تقدير.

■ أشرتِ إلى أن مصطلحات النسوية والسرد النسوى ظهرت فى الغرب أولًا.. هل كان على الإبداع الناطق بالضاد تبنى هذه المصطلحات؟
- مرت الكتابة النِسوية فى البلاد العربية بمراحل ثلاث هى: مرحلة محاكاة الأشكال الأدبية السائدة وسميت بالمرحلة المؤنثة، ومرحلة الأنثوية التى انبثقت من الوعى الأنثوى، ومرحلة الرفض والاعتراض على القيم الاجتماعية السائدة وسميت بالمرحلة النِسوية.
نعم، كان علينا أن نتبنى هذه المصطلحات؛ فالكتابة النِسوية لا تقتصر على كونها مجرد خطاب يلتزم بالنضال ضد التمييز الجنسى والسعى إلى تحقيق المساواة، إنما هى كتابة فكرية تعمد إلى دراسة التاريخ وتؤكد حق الاختلاف؛ فنرى أن أحداث الروايات الثلاث تذهب إلى أن الفارق بين الرجل والمرأة هو فارق أيديولوجى وثقافى وتاريخى قبل أن يكون فارقًا بيولوجيًا.

■ ماذا عن صورة المرأة فى سرد الرجل؟
- يرتبط مفهوم الصورة بمفهوم الذاكرة، والتفسير السيكولوجى لمفهوم الصورة يعنى أنها تحمل أبعادًا شعورية وأخرى لا شعورية، وأن ذات الكاتب تتفاعل مع تلك الصورة الذهنية كخبرة خارجية منسوبة إليها؛ بالتالى تخلع عليها قيمة ما قد تكون سلبية أو إيجابية، إلا أنها تعكس فى جميع الأحوال موقفًا حيالها، يمكننا الوصول إلى ذلك فى سرد الرجل أيضًا، فقد نجد صورة المرأة تتحول إلى نمط اجتماعى يعبر عن واقع طبقى، ويعكس وعيًا بالتحولات المجتمعية، مثال لذلك روايات الكاتب المصرى، أحمد صبرى أبوالفتوح، نجد أيضًا دلائل قوة شخصية المرأة ودورها الفاعل رغم أزمة الرابط الاجتماعى فى رواية «تغريبة القافر» للكاتب العمانى زهران القاسمى، ونجد أيضًا صورة المرأة النداهة التى تتمتع بلا مبالاة خالصة، تراقب الرجل ببرود عاطفى وهى تختبر قوتها.
والمرأة هى الشخص المغوى فى التراجيديا الكونية للبطل فى رواية «ليس بعيدًا عن رأس الرجل» للكاتب المصرى سمير درويش، وجاء توظيف صورة المرأة كرمز إنسانى، دالًا على ثنائية الحياة «الوادعة/ المغامرة» فى رواية «كاتيوشا» للكاتب المصرى وحيد الطويلة، ورأينا صورة المرأة التى تعانى المخاوف والانفعالات المزعجة مع «إسقاط» صفات الكمال عليها وجعلها مادة للتدبر بدلًا عن الغرق فيها والاحتراق بها فى رواية «حجاب الساحر» للكاتب أحمد الشهاوى، وكذلك صورة المرأة التى أنتجت سلطة المعنى المنطلق من الجسد؛ عبر لعبة الاختفاء/ الظهور، وقراءة الواقع من خلال التخييل فى رواية «ابتسامة بوذا» للكاتب شريف صالح، ورأينا صورة المرأة التى وصفها زوجها بالمرأة المحنطة، والمرأة التى أصبحت هامشية ولم يبق منها إلا الظل فى رواية «سيدات الحواس الخمس» للكاتب الأردنى جلال برجس.

■ أيهما يستطيع التعبير عن المرأة وكل ما يشغلها ما تكتبه.. النساء أم الرجال؟
- ليست هناك إجابة مطلقة؛ فما تكتبه الكاتبات عن أنفسهن يحمل مصداقية وقربًا، وقد يقدم الكُتاب رؤية مختلفة تعكس حساسية وتعاطفًا حقيقيين مع قضايا المرأة وتفاصيل حياتها. ولاشك أن جودة التعبير تعتمد على مهارة الكاتب/ة ودرجة الفهم العميق لموضوعات الكتابة. كلمة السر فى ذلك هى اللغة الخاصة القادرة على فك الاشتباك القائم؛ فقد تستخدم الكاتبات لغة تعكس تعقيدات عوالمهن الداخلية التى قد تكون أقل وضوحًا للرجال، وقد يحظى الرجال بمساحة أكبر من الخيال والابتكار فى التعبير عن مشاعر المرأة وقضاياها.