الأربعاء 02 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ليلى المطوع.. نكتب لنروى حكايتنا التى احتكر الرجل سردها لعقود

ليلى المطوع
ليلى المطوع

- حكايات النساء مقاومة واسترداد لحق سلبه الرجل

- المرأة مثل الأرض ثمرها يُؤخذ منها ويُقدّم قربانًا

يُجمع النقاد على أن الكتابة هى أفضل مرآة تعكس هموم المجتمع وتطلعاته وقضاياه المعقدة، وأن الأدب هو الأداة الأنسب لتشريح الواقع وإعادة تشكيله عبر عدسة الإبداع والفن. والكاتبة البحرينية ليلى المطوع أحد الأصوات التى أحسنت استخدام الأدب كأداة لتشريح المجتمع ونقده، واستطاعت بروايتيها «قلبى ليس للبيع» و«المنسيون بين ماءين» أن تقدم تجربة سردية تحمل أبعادًا إنسانية واجتماعية عميقة، متجاوزة التصنيفات التقليدية التى تحصر الكاتبات فى إطار «الأدب النسوى».

خلال حوارها التالى مع «حرف»، تتحدث ليلى المطوع عن الاتهام الذى يلاحق الكاتبات بحصر إبداعهن فى قضايا المرأة، وكأن «الأدب النسوى» منفصل عن الأدب الإنسانى العام، إلى جانب تفاصيل أخرى عن تجربتها الإبداعية بصفة عامة.

ليلى المطوع

■ متى ولماذا اتجهت للكتابة؟ ولماذا السرد الروائى؟

- منذ أن أهدتنى والدتى دفتر المذكرات الذى يوزع سنويًا ومجانًا لأفراد قوة الدفاع، أذكره بغلافه الورقى السميك، وخارطة البحرين فى نهايته، ويحدد كل يوم أعلى الصفحة، كان دافعًا لى للكتابة اليومية والتدوين، مع رسمة تعبيرية عن حالتى النفسية، فى تلك المرحلة كنت فى الصف الأول الابتدائى حين بدأت كتابة مذكراتى، واستمرت العادة حتى وقتنا الحالى، وكان هذا أفضل تمرين وتطوير لموهبتى.

كما أن عوالم القراءة والكتب جذبتنى، مثل متاهة لم أستطع الخروج منها، منذ تسلقت مكتبة والدى التى تحتل الجدار بالكامل فى صالة المنزل، وسحبت أول كتاب كانت به صور، كعادة الكتب المصرية فى ذاك الوقت أن تضيف رسومًا فى الأعمال الروائية، ومن حينها ابتدأت الرحلة واستمرت حتى إننى كنت أهرب من حصة تحفيظ القرآن فى القاعة المخصصة له فى قسم النساء فى المسجد وأعبر الشارع نحو المكتبة العامة فى فترة العصرية، بينما من حولى كانوا يلقنون، ويحفظون، كنت أتجول فى المكتبة، وأقرأ لأصوات أدبية مختلفة، من حيث الفكر، والتوجهات، وما يقدمونه، هذا العالم سحرنى. ولم أغادره، ولمَ على ذلك؟

أما عن السرد الروائى، فكنت طفلة مشاغبة، لا أسكن إلا بالحكاية، فحين يريد نساء العائلة إسكاتى أو أشغالى بشىء كنت يحكين لى قصصًا مختلفة، مشبعة بالأساطير والحكايات الشعبية، وكانت والدتى حكاءة مفعمة بالخيال، كنا لا ننام إلا على صوتها وهى تسرد لنا حكاية، تشدنا بصوتها لعالم الحكايات، حتى نغمض أعيننا. لم أعرف طريقة أعبر بها عن نفسى إلا أن أروى، ففى الأخير الإنسان يعرف من خلال الحكاية، ويعرف ما حوله منها كذلك، ونرتبط بالأشياء بسبب الحكاية، فالمدن، والبيوت، والأشياء من حولنا، نرتبط بها من خلال الحكاية.

■ تبدو روايتك الأحدث «المنسيون بين ماءين» شديدة الخصوصية.. إلى أى مدى تأثرت ببيئتك سرديًا؟

- الكاتب ابن بيئته، أنتمى لجزيرة خصبة غنية بالتاريخ، من لا يعرف البحرين يجهل قيمتها وتاريخها الأسطورى، فهى الجنة الموعودة، وهى التى تصارعت عليها أمم وحضارات لما تمتاز به موقع مهم، وبها من الخيارات ما يغرى وما يدفع الطامعين لسواحلها، نحن أهل ماءين، فالبحر يحدنا من كل جهة، والماء العذب يتفجر فى قاع البحر واليابسة، لذلك أغلب أساطيرنا متعلقة بالماء، كما أن طقوسنا وأغانينا وأهازيجنا تربطنا بهذا الكائن الأزرق، تأثرت بحكايات الجدات، وتأثرت بما حدث من تغيرات فى جغرافية الجزيرة، وفى الأخير الكاتب كائن حساس، تؤلمه هذه التغيرات، فيعبر عنها فى أعماله.

■ ذهبت بعض الآراء النقدية إلى أن «المنسيون بين ماءين» رواية معرفية.. أين يبدأ الخيال وينتهى فى الرواية؟

- الحقيقة أن البحر دفن الخيال والأسطورة التى فطمنا عليها نحن أهل الجزيرة، إننا جزيرة منذورة للغرق، وسنعود للماء. يمتزج الخيال بالحقيقة فى الرواية فطرفة بن العبد شخصية حقيقية، ولكن مقتله يفتح باب التأويل حيث إن لا معلومات ولا روايات مفصلة عن هذه الحادثة، وعبور سليمة للبحر كما تفعل القوافل العربية التى تعرف كشف عن أسرار الماء وتعرف طرق السير عليه مع قوافل الجمال نحو جزيرتنا، فجغرافية البحر لدينا مميزة، ففى مواقع يسير عليها الركاب ومواقع تسير عليها السفن. كما أن هناك رحالة حين زار البحرين فى القرن الماضى وصفها بأنها جزيرة العميان، فأغلب غواصى اللؤلؤ فقدوا أبصارهم فى سن مبكرة بسبب الغوص، ولكأن البحر ينتقم، إذا أخذت لؤلؤه سيأخذ عينيك.

والرواية فعل تخيلى، ولكن طريقة معالجة الفكرة والخيال تأتى من خلال مهارات الكاتب، كان هذا العمل تحدٍ مرهق، فى البحث والنبش والكتابة، والمراجعة والإيمان بما قدمته، لأن التجريب يعنى الخروج من دائرة الأمان. 

ويبدأ الخيال من أنسنة الأمكنة والكائنات، والظواهر الطبيعية، حين أغرقنى البحر، وحين نذرت للعيون، وحين وقفت على جزيرة فى وسط البحر وصعدها الماء وأخفاها أسفله، وهذه هى الحالة، فهى لا تنتمى لا للبحر ولا لليابسة. كل تلك الصراعات بين اليابسة والماء، وبين الإنسان والطبيعة والتى تمتد لأجيال طويلة ألهمتنى فى البحث عن جذور الأساطير، وخلق أسطورة لأفهم لما سنعود للبحر، ولما نذرنا بالغرق، هذا النذر الذى يطاردنا. والأهم من ذلك خلق حكاية تعيد صلتنا بالبحر، وتكشف عن جماله وتفرده الآخذ فى الزوال.

■ ما المشتركات بين تشابه «سليمة وناديا» بطلتى «المنسيون بين ماءين» والنساء العربيات فى عمومهن والخليجيات خاصة؟

- التضحية، فالمرأة كالأرض، ثمرها يؤخذ منها ويقدم قربانًا.

■ فى نفس الرواية يظهر صراع بين الأجيال.. هل التغيرات الحديثة أصبحت تشكل مصدر خطر على الهوية والتراث البحرينى؟

- الصراع فى الرواية مع الطبيعة، فبعد أن كانت الطبيعة تشكل خطرًا علينا، وكان البحر يغرق الأراضى، ويأخذ أبناءنا، ويعتدى علينا، صار الإنسان يعتدى على البحر، كنا نَسِم البحر بصفة الغدر، ثم أخذنا نحن منه هذه الصفة، فصرنا نحتجزه فى مكعبات رملية، ثم تأتى الشاحنات بالرمل لتدفنه، ونقيم مساكننا عليه، وهكذا نزحف على هذا الامتداد الأزرق، ابتعدنا عن الماء، وتغيرت هويتنا جراء هذا الابتعاد، أصابتنا باللعنة، لعنة أهل بابل، فقد بلبل الله ألسنتهم حتى لا يصلوا للسماء، ونحن حين اعتدينا على البحر بلبل الله ألسنتنا، فأنا أعيش فى جزيرة وأعاشر جيلًا جديدًا لا يتحدث العربية ولا يفهمها، وبهذا تحدث القطيعة بين هويتنا وموروثنا، فالجيل الجديد لا يفهم أساطيرنا، ولا يفهم حكايات الجدات، فلم يعد يرتبط بالمكان كما كنا فى جيلنا نحن، ولا يعرف جذوره وتاريخه الغنى.

■ للبحر أثر كبير على ثقافة وهوية شخصيات «المنسيون بين ماءين».. فما ملامح هذه الثقافة ومظهرها؟

- فى طفولتى كنا ننذر للبحر، كانت والدتى تحرص على إحياء طقس «الحية بية» وهى أضحية للبحر، نبتة نزرعها فى سلة من الخوص، ثم نرميها ليلة عيد الأضحى، ويشارك أهل الجزيرة فى هذا الطقس، فكل بيت يحرص أن يمنح البحر أضحيته. وكانت الجدات ينذرن لجنى العين، واختفت هذ الطقوس بعد جفاف أغلب عيون الماء وردمها، لا يابسة حتى فى اسم الجزيرة، بحرين، من الماء خرجت وإليه تعود.

نحن أهل هذه الجزيرة خُلقنا من ماءين، عذب ومالح، ونحمل هوية الماء فى اسمنا ونعرف به «البحرينيين»، أتلمس هذه الثقافة، ثقافة الماء فى جيلى والأجيال التى سبقتنى، جميعنا تأثرنا بالماء، وبطقوس الغوص، وأهازيج البحر، ثم تغير كل شىء حين دفن، لذلك حين كتبت رواية «المنسيون بين ماءين» تساءل البعض كيف سأكتب شيئًا مختلفًا وأجيال من الكتاب والفنانين تناولوا البحر، ولكن كتبت العمل كما أراه أنا، جيلى الذى ولد وهو يظن أن ما يقيم عليه يابسة، ولكنه بحر دفن، ما كان للأجيال السابقة بحر، وهو يابسة لجيلى وللأجيال القادمة. 

هذا التغير له ثمنه، وله وجعه، ذكرت فى حوارات سابقة عن النوارس التى تقف صباحًا على الأرصفة فى الحى وتصرخ فى وجهى، وجودها فجّر السؤال بداخلى، ماذا يفعل النورس هنا؟ فأخبرتنى والدتى أن هذا الحى كان فى الأساس بحر ودفن. الماء شكّل أسئلتى، كما شكل ذاكرتى، فكل الحكايات تبدأ هنا، كان البحر هنا ثم دفن، هكذا تبدأ الذاكرة والحكاية والحنين لدينا نحن أهل الماء.

وشخوص رواية «المنسيون بين ماءين» تبدأ حكايتهم فى الماء كان فى البحر أو فى العيون، وكان البحر يشكل هويتهم ويقدمهم للقارئ، فالبحر هو بطل الحكاية فى الرواية، وهو الذى عكس نفسه لترى ما لا يرى، فحين رأى الإنسان وجهه على انعكاس الماء، عرف ملامحه، وعرف هويته. فالبحر هو الذى عرفنا من نكون. وكل هذا تغير حين ابتعدنا عنه، فما معنى أن نكون جزيرة بلا ماء؟

 ■ حصلت روايتك على قراءات نقدية متنوعة ومتعددة.. ماذا يعنى لك هذا الأمر؟

- أسعدتنى القراءات النقدية التى أضاءت النص، وعرفت القارئ عليه، وحاولت فك الرمزية العالية به، أعتقد أن يكتب عن الرواية كبار الأدباء، مثل آخر مقالة صدرت عنها وهى للروائى إبراهيم عبدالمجيد، وشهادات كُثر مثل شهادة الروائى أمين صالح، والشاعر قاسم حداد، والروائى على المقرى، والروائى واسينى الأعرج، والروائى الذى أحب أعماله التجريبية سمير قسيمى، وعدد كبير من النقاد الذين أكن له كل احترام وامتنان حتى تجاوزت القراءات النقدية العشرين مقالة ونشرت فى أهم الصحف والمجالات العربية، فهذا برأيى أهم من أى جائزة. خاصة أنى كاتبة فى أول الطريق، واخترت التجريب للتعبير عن هويتى، وهذه مجازفة، ولكنّ شهادات الكبار وآراءهم فى العمل زاد من ثقتى، وكانت مثل التربيت على الكتف والتشجيع لمواصلة المسيرة.

■ رغم أن الكثيرين يرفضون التصنيف الإبداعى إلا أن الكتابة النسوية ما زالت تهمة تطارد الكاتبات.. كيف ترين الأمر؟

- يسمونها ثرثرة نسائية، أو بكائية طويلة، رغم أن هذا الصوت يساعد نساء سُجنّ بين أربعة جدران، ولا سبيل لهن للمقاومة إلا من خلال حكايات تشترك معهن فى نفس الوجع وتفهمه، هذه الحكايات تلهمهن، تدفعهن لتغير حياتهن، هم يتهمون النساء بالكثير من الأمور، الأمر لا ينحصر فقط على النوع السردى الذى تختاره المرأة لتعبر فيه عن نفسها وعن أوجاع من حولها، من سيسرد تاريخ الألم فى حياة النساء غير الحفيدات؟ اللاتى رضعن هذا الوجع.

هذا السرد يوثق ما تعانيه النسوة فى بيئة مغلقة، تكتم صوتها وتخنقه، ويكون السارد هو الرجل فقط، هو الذى يعبر عما يعتقده ويؤمن به ويفرضه علينا، هو الذى يحاول أن يروى الحكاية، حكايتنا نحن النساء، هذه الكتابة مقاومة واسترداد للحق. نحن النساء سنروى حكايتنا بعد أن حكاها الرجل لعقود طويلة وكتم مشاعرنا وروج لأفكار ومفاهيم يؤمن هو بها من دون الرجوع إلينا.

■ «الشيطان فى عقلك وليس فى جسد المرأة».. مقولة شهيرة لك فى سياق مواجهة لك مع أحد المتأسلمين.. حدثينا عن الأمر وكيف أسهمت التيارات الدينية فى ترسيخ هذه الصورة الذهنية عن المرأة؟

- حين نتأمل ما حولنا، كتبًا، نصوصًا، أفلامًا، أغانى، أفكارًا، وتصرفات أغلبها تروج لأفكار مغلوطة عن المرأة، حتى إن التحرش والدعوة له نشاهده فى الأفلام كمشهد ساخر يُضحك الرجال، وفى الأغانى حين تتمنع الفتاة وهو يطاردها، ويؤطر هذا الفعل ولكأنه فعل رومانسى، أنا لا ألوم فقط التيارات الدينية الملقنة على ما فعلته فى النساء من تهميش، وإهانات وتحويلها لوعاء للرجل ومتاع، حين نتأمل العالم على مختلف تياراته نراه يؤيد هذه الأفكار تجاه النساء.

 ■ من الذين قصدتِهم بقولك «تضعون عقل المرأة فى صندوق ومن ثم تسخرون من نطاق فكرها الضيق»؟ وما حيثيات حكمك هذا؟

- سجن أى كائن وعزله عن المجتمع والترويج له بأنه كائن ساذج سيعطل من نمو المجتمعات، فكل المجتمعات تحتاج إلى النساء والرجال للنهوض، وبناء مجتمع سوى ومتزن. يكفى أن تصرح المرأة علانية بأفكارها سنجد هجومًا عليها فى حسابات التواصل الاجتماعى، وأكبر مثال أن نوال السعداوى شُن عليها الهجوم لسنوات طويلة وحتى بعد وفاتها، لأنها امرأة تفكر وتدافع عن حقها وحق النسوة، هذا الهجوم لن تتعرض له أى امرأة تعرض جسدها وترقص بطريقة كلها إثارة وإغراء، لأنهم يعتقدون أن هذا هو دور المرأة فقط، أن تكون متاعًا لهم، ولشهواتهم، وهذا هو دورها فى الحياة فهى المكافأة التى وُعدوا بها فى الدنيا والآخرة.

■ كيف ترين الجوائز الأدبية؟

- الجوائز الأدبية مهمة فى التأثير على الجماهير، فهى تجذبهم نحو العمل، وتسرع من انتشاره، كما أن الجوائز تقدير لجهد الكاتب، ولكنها لا تصنع كاتبًا، فهناك أسماء عربية وعالمية تسيّدت المشهد الثقافى، ولها نتاجها الذى كان بصمة متفردة، وشكل منحنى فى عالم الأدب، ولكن من دون جائزة.