الرواية والحكاية

حالة الانفجار الروائى التى اتسعت منذ تسعينيات القرن الماضى، ما زالت مستمرة بنجاح عظيم، وعلى نحو لافت ويستحق التأمل كثيرًا.
فمنذ أن أطلق الناقد الأكاديمى الراحل جابر عصفور عبارته الشهيرة «الرواية هى ديوان العرب الآن»، والمطابع تخرج من باطنها مئات الروايات كل عام، ويبدو الأمر عاديًا وطبيعيًا فى بلد تجاوز عدد سكانه المائة مليون نسمة بكثير، بل وربما يرى البعض أن هذا الإنتاج الكبير ظاهرة صحية تعبر عن مناخ إبداعى مزدهر، ولكن فى السنوات الأخيرة باتت الرواية ملطشة لكل من هب ودب، وفى معرض الكتاب الأخير، يمكن القول على سبيل المزاح، هناك رواية لكل مواطن، فالأعمال الروائية التى صدرت خلال العام ٢٠٢٤، أو خلال أيام المعرض يصعب حصرها، والحملات الترويجية لهذه الأعمال الروائية لا تنقطع، سواء على صفحات التواصل الاجتماعى، أو بالوسائط الإعلامية الأخرى.
فى حالات عديدة تبدو عناوين الروايات جاذبة ومُغرية، وهناك عناوين غرائبية، لكن ما إن تشرع فى القراءة حتى تصطدم بلغة ركيكة وعوالم مصنوعة، وهناك أعمال يصعب أن يطلق عليها رواية أصلًا، والعديد من كاتبى هذه الروايات ربما لا يميزون بين موضوعات الإنشاء والحكايات ومسلسلات التليفزيون والرواية.
معظم ما قرأت- وما أكثره- خلال العام المنصرم جاء أغلبه سردًا لتجربة حياتية محدودة، ليس بها ما يستحق الدهشة الخاصة بالمفارقات الإنسانية وعوالم الشخوص، البعض الآخر غلب عليه الخيال المفتعل، والافتقاد إلى المنطق العام للأشياء، ناهيك عن المنطق الداخلى، والدوافع لأفعال هذه الشخصيات وسلوكها، فسين يقتل صاد مثلًا ولا نعرف السبب، و«ع» يحب حتى حافة الجنون، دون إدراك السر فى ذلك، هل فيه أم فى المحبوب؟، ويمكن إيراد أمثلة عديدة عن غياب المنطق وركاكة رسم الشخصيات سواء من الداخل أو الخارج.
المدهش أن معظم هذه الروايات جيدة على مستوى صناعة الكتاب، فالغلاف جيد والإخراج الداخلى ممتاز، ولكن الأكثر دهشة هو أسعار هذه الروايات، فهى على الأغلب ذات سعر مرتفع، اللهم إلا ما ينتج عن دور النشر الحكومية كهيئة الكتاب، أو هيئة قصور الثقافة وغيرهما من جهات النشر.
حالة التخمة الروائية هذه تطرح العديد من الأسئلة، ربما كان على رأسها سؤال يتعلق بوجود قوة شرائية لهذه الأعمال مرتفعة السعر، والسؤال لا يفقد وجاهته، إذا ما استثنينا فئة الشباب صغار السن الذين يقرأون أعمالًا على غرار ما يكتبه أحمد خالد توفيق، وكذلك روايات الديستوبيا.
ويمكن التساؤل أيضًا عن الدوافع الحقيقية لكتابة الرواية عند هؤلاء: هل ذلك بسبب مأزق تعبيرى عام يتم الخروج منه إلى عالم الرواية الفسيح والمرن تعبيريًا؟. هل هى الرغبة فى التحقق، واكتساب مكانة ما مفقودة عبر نشر عمل روائى؟.
الجوائز المغرية والمتناثرة هنا وهناك التى يمكن أن تحقق شهرة وثراءً ربما كانت الدافع لدى البعض لكتابة رواية، ولكن البعض أيضًا هم مرموقون اجتماعيًا ولهم وظائف أعمال يُعتد بها.. فلماذا الرواية؟.
فى جيلى، وأجيال قبلى، كان الاندفاع نحو القصة القصيرة وهناك أسماء أدبية مرموقة ولامعة جدًا فى سماء الأدب لم تكتب غير القصة القصيرة، ويكفى أن نذكر الرائد محمود البدوى، ويحيى الطاهر عبدالله ومحمد المخزنجى، فالعبرة ليست بالجنس الأدبى، ولكن العبرة بالإجادة والإفادة، فقصة قصيرة واحدة، ربما تكون أهم وأفضل وأبقى من روايات عشر ركيكة ومترهلة وبلا معنى.
هناك من يشير إلى دور النشر، باعتبارها المتسببة فى ظاهرة التضخم الروائى هذه، حيث العرض أكثر من الطلب، فدور النشر تتقاضى ثمن النشر من كاتب الرواية، وبالتالى فهى تتغاضى عن الشروط الفنية، ولا تهتم بالمستوى الإبداعى اللازم للعمل الروائى، ويساعد على ذلك غياب النقد الأدبى الرصين، فالنقد الأدبى السائد يأتى على الأغلب من غير المتخصصين، خصوصًا أن معظم النقاد الأكاديميين منشغلون بالعمل الجامعى الخاص بالتدريس وتبعاته الكثيرة.
كثرة الإنتاج الروائى ليست مشكلة بحد ذاتها، لكن المشكلة فى اختلاط الحابل بالنابل، والغث بالسمين، وإشكاليات الرواية كثيرة، وربما من الأهمية عقد مؤتمر يتناول حال الرواية فى مصر الآن، وليكن الداعى له المجلس الأعلى للثقافة، وهذا أضعف الإيمان، بعد أن يئس الجميع من عقد مؤتمر الرواية المعطل منذ سنوات لسبب غير مفهوم.